مررتُ على جارتنا الحاجة ساعةَ نهارٍ، وهي امرأة وحيدة طاعنة في السن، قد بلغت مِن الكِبرِ عتيّا، بعدما كانت يوما ما مُحامية ناجحة لها أسمها ووزنها في المُجتمع..
بعدَ التحيّة والسلام والسؤال عن الأحوال، بدأت تبُثُ إليّ بحالها، وهي الإنسانة العابدة التي تهتم بعباداتها كثيراً، تختم في شهر رمضان الواحد ست ختمات قرآنية تُهديها لوالديها ولمعارفها من الموتى..
قالت: "إنني مُنذ اربعة أيام أستيقظ في الثانية صباحاً وأحيانا أستيقظ في الثالثة إلا ربع كعادتي لأداء صلاة الليل وبعض النوافل التي تسبق صلاة الفجر، ولكن ما أن أتوضأ وأرتدي احرامي تهيئاً لأداء الصلاة، واذا بي أجلس على السجادة لفترة طويلة أو أقوم ببعض الحركات والإيماءات وأقرأ بعض الاشياء وانا أعلم انّ كل شئ خطأ.. لم أعد اعرف أصلي كما ينبغي، لم اعد اعرف كيف أصليها..!! ".
قالتها وقد خنقتها غصةً جعلت صوتها يخرُج متهدجاً "لقد.. لقد نسيتُ كيفَ أُصلي!".
نظرتُ أليها وقد أتسعت عيني، ولم أستطِع أخفاء دهشتي التي أخذتني من موقعي مع أفكاري بعيداً، كنتُ قد أيقنتُ بأن الزهايمر بدأ يطرق باب حاجتنا الكريمة، سمعتُ عنه كثيراً وانّ من يصاب به قد ينسى أسماء أبناءهُ، تأريخ ميلاده، أو حتى عنوان بيته ولكن لم يسبق لي ان تخيلتُ حتى انّ احدا يمكن ان ينسى كيف يُصلي؟!
ان ينسى الانسان كيف يصلي بعد عمرٍ طويل، كيف يمكن له ان يطيق العيش بعدها!!
عادَ إليّ صوتها وهي تناديني بتوسل: "ماذا أفعل، انا أصليها منذُ سنوات طويلة حتى أني نسيتُ أن احصيها فكيف أمكنني أن أنسى كيفية صلاتها الآن! ماذا أفعل؟!".
أسئلتها زادتني حيرتاً على حيرتي وشرعتُ بسؤالها أسئلة عدّة:
- ماذا نسيتِ بالضبط؟ هل نسيتي الآيا ، حركات الصلاة أم الأذكار؟ أم ماذا؟!
_لا أدري ربما لازلتُ أحفظ الآيات، لكنّي لم أعُد اعرف كيف أدعو حتى.!
- ماذا عن صلاة الفجر؟ هل تستطيعين أدائها؟!
- نعم أستطيع أدائها.. قالتها بتردد!
عندها قلتُ لها مُطمئنةً، لا بأس عليكِ يا جدة لا بُدّ أنّكِ كُنتِ مُتعبَة، الأيام التي تريّن فيها نفسَكِ مُتعبة لابأس بأن تقللي من عباداتكِ قليلاً واقتصري على الفرائض فكما تعلمين بأن الله لا يُكلِفُ نفساً إلا وسعها...
هدأ كلامي من حُزنها قليلا لكن لم يطفئ ما بها من لوعة.. وكنتُ أرى ذلك في عينيها القلقتين..
" كيفَ يحدثُ لي هذا، وأنا التي كنتُ أفعل كذا وكذا..
وكنتُ أدعو الله وأناجيه لساعات متواصلة، الآن لا يُمكنني حتى أن اجد الكلمات، لا يمكنني قول ولا كلمة واحدة"..
كلماتُها ذكرتني بآية كريمة تصِف حالها تماماً، فشرعتُ بتلاوتها لها، وأكملت هي معي تلاوة النصف الآخر من الآية، مُسلمتاً بذلك أمرها لرحمةِ الله الواحد الأحد...
"منهم من يُتوفى ومنهم مَنْ يُردُّ الى أرذلِ العُمر لكي لا يعلمُ من بعدِ علمٍ شيئاً".
اضافةتعليق
التعليقات