وجه مصفّر وعيون غائرة لجسد انهكه السهر، حفرت الدموع اخاديد على وجنتيه، يسعل بشدة كأنه رجل تجاوز السبعين عاما، وهو في أول الشباب، يدّخن بطريقة انتحارية كلما أنهى سيكارة أشعل أخرى حتى يضيق عليه النفس، ويظل يسعل ويسعل، ماإن يتلقف أنفاسه يعود للتدخين، هزيل كأنه هيكل عظمي، اتخذ ركن الغرفة مكانا لأحزانه وبكائه، في معزل عن الناس الذين يظنونه مجنونا من كثرة بكائه وهذيانه.
يأس والداه من حالته، بعد أن عجز الاطباء والمنجمين عن علاجه، كلما سائت حالته ناولته أمه أقراص مهدئة وأخرى منومة، تغشى عليه الموت من كثرة البكاء.
ينام ولايهدء روعه، يتكلم في اعماق نومه يصرخ ينادي: "الفريسة تضج... تصرخ..تستغيث... الكل يريد نصيبه، يتغنون بالمحاصصة، لايبالون بها، انها تنزف... وهي لاتزال تنبض بالحياة، شأنهم في ذلك شأن كلاب السكك على فريسة استضعفوها ينهشونها من كل صوب وجهة".
أحلام وكوابيس تراوده نائما ومستيقظا، عبثا تحاول امه ان تهدّء من روعه لعله يتخلص من كابوس يقتله في كل ليلة، يستيقظ يجهش بالبكاء يصرخ: الضجيج، اصوات، وانين، يحرق قلبي، نسمات الهواء تنعى شباب كالأقمار غيبها التراب غدرا، اخذتهم المنية جمعا حصدتهم ايادي قذرة لاتستحق الحياة، وكأنهم جنوا مالم يغتفر.
يصم اذناه من صوت الرصاص في صحراء حدودية، سوروها رجال باعوا الارواح تركوا الاهل والاحبة دفاعا عن الارض والعرض وعن المقدسات.
ثم يبكي على مرضى يأنون من ألم العلة التي أنهكت أجسادهم في مستشفيات ملوثة يصارعون الموت الذي تربص بهم.
يهز رأسه ليبعد الصورة، ويصم اذناه عن صوت الأنين الخافت لدموع ونشيج أيتام العراق وما أكثرهم.
ويظل يبكي... ويبكي... ثم ألا يحق له أن يبكي؟!
حاله في كل ليلة البكاء، الألم، يشكو ضجيج جياع في بلد من اغنى بلاد العالم ويبكي من القتل والموت الذي صار بالجملة.
يبكي لتلك التي رمّلها القدر وجعلها أما وأبا، نهارا تسعى لتجلب لقمة العيش، وفي الليل تتوسط الايتام، خافت ان تغمض عينها على أيتام صغار في بيت لايصلح للسكن.
اعتاد الجميع بكائه، وعندما لايبكي فإن شيء ما حصل، كل ليلة يبكي حتى الصباح.
تراقبه أمه وهو مستبشر الوجه في هذه الليلة على غير عادته!! تتسائل ألم يسمع الضجيج في هذه الليلة؟ أم لأنها ليلة ولادة الأمل أنعدم الضجيج؟!
ينظر الى السماء كيف لملمت الشمس خيوط كانت قد نشرتها باكرا ودّعت السماء وبدت تختفي خلف المدن والقيعان وأذنت لليل أن يعود بعد سفر قريب، لبست السماء حلة سوداء التمعت النجوم وبان وجه القمر توزعت النجوم حوله على تساوي.
مازال محدق في السماء الذي بدا كلوحة رسمت بخلفية سوداء وتناثرت عليها مصابيح كثيرة وتوسطها مصباح كبير متقد، كأنها شموع أوقدها عاشق لمعشوقه في ليل شديد الظلام.
بدا الليل مضيء هذه الليلة، ورغم حرارة الصيف، تهب بين الحين والأخر نسمات عذبة كأنها هدية من فصل الربيع، في ليلة كهذه سيطر الهدوء عليه تماما حتى أرتسم الأمل على وجهه.
أستبشرت والدته كثيرا لروأيته، قدمت له الحلوى وعشاء وأوقدت الشمع علّقت وهي تشعل الشمع: ان الليلة عظيمة الحرمة عند الله، وهي عظيمة عند الشيعة، ففيها يولد امامنا المنتظر، انها ليلة النصف من شعبان، هز رأسه: اعلم، ضجيج المظلومين يخفت في مثل هذه الليلة ويدخل الفرح على قلوبهم المتقرّحة، كالبلسم الشافي، يدعون لأمامهم بتعجيل الفرج.
فجأة يتغير لونه وتدمع عيونه ماذا هل عاد الضجيج؟ اسمع ضجيج من بلاد بعيدة.
صوت الضجيج يخنق الحمام ايضا، حلّقت حمامة لتجلب الاخبار، ماان اكمل حديثه لاحت له الحمامة من بعيد تلهث ترتطم بكل شيء امامها، تضج هي الاخرى بهديل الاحزان، وتصرخ: استكثروا عليهم الفرح في مثل هذه الليلة، قتلوه في ليلة ولادة الامل، رأيتهم يدقون المسامير في رأسه، رأيته يجر بالحبال رأيتهم يركلوه بأقدامهم، لقد فارق الحياة لم يكن مذنب، ولم يكن مرتد، ولم يكن كافر قتلوه وهم يضحكون، قتلوه ولم ينتصر له احد، قتلوا الشيعي الموالي (الشيخ حسن شحاتة). اي اناس هؤلاء واي زمان هذا، مازال الدم في مكان المصرع يعيد صور الماضي وان مضت السنين والايام على قتله فأن مشهد الدم لازال حاضرا، غصت الحمامة وسقطت مفارقة للحياة من بشاعت الجريمة، اما هو فبدأ يسمع ضجيج واي ضجيج هذه المرة لم يكن ضجيج الفقراء والمساكين والضعفاء والمحرومين والابرياء، وانما يسمع ضجيج جهنم التي لم تعد تطيق الانتظار على اناس استباحوا المحرمات، وقتلوا النفس المحترمة، تصرخ جهنم:( يوم الظالمين قريب) ايها المنتقم ياامل الظلومين، يامولاي هذه سنة اخرى تمر على ولادتك، ولاتزال بعيد عنا، شيعتك يقتلون ويهجرون في كل يوم وليلة، سيدي سأمنا العيش ضاقت بنا الدنيا طال الغياب علينا، اجتمعوا على اقصائنا ياصاحب الزمان "، عجل على ظهورك. "
اضافةتعليق
التعليقات