كنت منشغلة في العمل على حاسوبي المحمول، زارعة رأسي في وسط الشاشة بينما اناملي تتراقص على لوحة المفاتيح بخفية تامة مرتبطة حركتها بحبل افكاري العميق، واذا بصوت الرسائل الواردة من هاتفي يقطع سلسلة افكاري ويشوش عليَّ تركيزي العميق.
بين زخم الرسائل الواردة من برامج التواصل الإجتماعي، وخصوصاً المجموعات في "الواتس اب" لفتت نظري رسالة وصلت اليَّ من احدى "الجروبات"، بحلقت في هاتفي بكل ما اوتيت من عمق، لم تصدق عيني ما كان في مضمون الرسالة!، فركت عينيَّ لأعيد لهما التركيز، كان في مضمون الرسالة ما يأتي: "يوجد طفلان توأمان، عمرهما ايام، والديهما لايريدانهما، فعلى من يرغب بتبنيهم الاتصال على الرقم الآتي...الخ".
قرأت الرسالة وكلي دهشة!، انزرعت على شفتي ربع ابتسامة لقيطة من اثر الصدمة، واوهمت نفسي بأنها مزحة!، ولكنها مع بالغ الأسف لم تكن كذلك!.
ماذا يعني ان يعرض احداً اولاده وفلذات كبده الى العطاء بهذه الصورة الدنيئة!، للحظة واحدة شعرت بأنها تجارة او هبة غير شرعية!، او بضاعة يتم تبادلها عن طريق "الواتس اب"!، على من تناسبه هذه القطعة الاتصال على الرقم الآتي؟؟..
هل باتت الانسانية رخيصة الى هذه الدرجة؟، هل الانسان اصبح كسلعة يتم تبادلها على مواقع التواصل الإجتماعي؟ الف والف سؤال بات يغرس مخالبه في اعماق فكري الشفاف تاركاً خلفه جروحاً صادمة، وكلي غير مستوعب مايحدث.
ومن ياترى سيتقبل فكرة تبني طفل عن طريق رسالة وصلت اليه من جروب في "الواتس اب"، حتى وان فعل ذلك قربة لوجه الله، كيف ستكون نفسية الطفل عندما يكبر؟!، وماذا سيقال له؟، هل اشتريناك عن طريق الانترنت؟!.
بسبب الظروف الأمنية التي يعيشها العالم اضافة الى الاضطراب السياسي والاقتصادي والحروب التي مثلت العامل الأول في خلق حصيلة كبيرة من الايتام في الوطن العربي، صرحت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الانسان والحريات احصائية عن عدد الأيتام في العالم التي بلغت حوالي 165 مليون يتيم معظمهم اصبحوا ايتاما بسبب الحروب والمجاعات والفقر والكوارث في العالم.
وهنالك ملاجىء ومراكز خاصة تهتم بهؤلاء الاطفال وتوفر لهم حياة كريمة من المسكن والملبس واحتياجات اخرى الى ان يبلغوا السن القانوني الذي يسمح لهم بالزواج او الاعتماد على انفسهم.
وهذه الملاجىء توفر الفرصة لمن يحب ان يتبنى طفلا، بأن يأخذ الطفل وينسبه الى عائلته ويوفر له عوامل العيش الكريم، كما ان هنالك الكثير من الازواج الذين انحرموا من الذرية يخطون هذه الخطوة الإيجابية ويتبنون الاطفال، ليرسموا لهم وبإرادة الله مستقبلاً جديداً مع عائلة جديدة تمنح لهم حياةً اجمل وتعوضهم الحرمان الذي لم يكن لهم يد في اختياره.
ولا ننسى بأن رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اوصى على اليتيم كثيراً، وبين منزلة كافل اليتيم في قوله: "انَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَلِيلًا".
ونشاهد كيف الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن منزلة كافل اليتيم، وخصّ الرعاية والاهتمام به.
وهنالك الطفل اللقيط الذي تخلى عنه ابويه لأسباب مجهولة لربما تعود الى علاقة محرمة، او ظروف خاصة يتحمل ذنبها ذلك الطفل البريء الذي يأتي الى هذه الدنيا بلا حول ولا قوة، ليجد نفسه مرمياً على دكة مسجد او متروكا كشخص منبوذ في ردهات المشفى.
وبين هذا الطفل اللقيط الذي دفع ثمن غلطة لم يكن له اي ذنب بها، وذلك اليتيم الذي فقد ابويه، يقف طفلاً ثالثا مجهول التسمية، فرطوا به اهله لأسباب مجهولة، او منحوه او باعوه الى عائلة اخرى او تركوه في الشارع ليتخلصوا من عبىء تربيته والانفاق عليه.
وغالباً ما ينسب الباحثون الأسباب الى الفقر والجهل الذي نخر هيكل العالم الاجتماعي والاقتصادي، ولمعرفة معلومات اكثر حول هذا الموضوع والعوامل التي ساهمت في زيادة هذه الحالة كان لابد من اخذ رأي الدكتورة في علم النفس/ جامعة ديالى "سلمى حسين كامل" حيث قالت:
"لا شك أن الآثار التي خلفتها الحروب كثيرة، التي خاضها العراق على مدى عقود طويلة، والتي انتهت باحتلاله وتدميره، مروراً بحصار اقتصادي قاسي على مدى ثلاثة عشر عاماً، وما نتج عن الاحتلال وتغيير نظام الحكم بعد عام 2003 من إرهاب وانفلات أمني ومشاكل طائفية وإثنية وقومية، كلها عوامل أسهمت في ظهور مشكلات اقتصادية واجتماعية في المجتمع العراقي، تحولت بمرور الزمن وبغياب الحلول المناسبة الى عقد ومشكلات واضطرابات نفسية القت بظلالها على الفرد العراقي، وكانت الضحية الأولى والأخيرة في كل هذا هم الاطفال والنساء الذين لا حول لهم ولا قوة.
واضافت:
نتيجة للانحراف الأخلاقي وزيادة في عدد المعدمين والعاطلين والذين بلغوا نحو (10) ملايين فردا في المجتمع، فضلا عن ارتفاع المبالغ في الأسعار وتدني مستوى المعيشة والأجور، الى جانب إهمال الأسرة في تربية أبنائها، وضعف الوازع الديني والتربوي في المدارس والجامعات، ما أدى لانتشار ظاهرة خطيرة يصح تسميتها بــــ (تجارة الفلذات) أي بيع الأبناء لدوافع عديدة منها (تجارة الأعضاء، التجارة الجنسية، طلب الفدية، والتسول، والتبني)، فأصبح الطفل مجرد سلعة تباع وتشترى وتحدَّد مواصفاتها وأسعارها وفق متطلبات السوق.
ورغم تحريم تجارة وبيع الأطفال في كلِّ دول العالَم، لكن تبقى هذه الجريمة خطراً يحدق بالطفولة في العالَم، ومنها أطفال العراق، بالرَّغم من وضْع العقوبات والإجراءات القانونية لمنع هذه الظاهرة من الإنتشار، إلاَّ أنَّ منظمة "اليونيسيف" قدَّمت صورةً متشائمة عن الجهود المبذولة، لتحسين وضْع الأطفال في العالَم، وبالتحديد في العِراق، مؤكِّدة أنَّ 1,2 مليون طفل يتمُّ الاتجار بهم سنويًّا. وتنص المادة الثانية من البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال، الصادر بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 263 في 25 أيار 2000 على ما يأتي: "يقصد ببيع الأطفال أي فعل أو تعامل يتم بمقتضاه نقل طفل من جانب أي شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى شخص آخر لقاء مكافأة أو أي شكل آخر من أشكال العوض".
وتبقى المعالجات مقيدة بين الوضع السياسي والاقتصادي الذي تمر به البلدان، وتوفير فرص العمل، ومكافحة البطالة والنهوض بالواقع المعيشي والاقتصادي للافراد والذي سيعكس صورة ايجابية على اقتصاد البلد وتأثيره على دخل الافراد، وتبقى مسألة الرزق هي مسألة الهية يتحكم بها الرزاق المتعال ويؤكد الله (سبحانه وتعالى) ذلك بوعد رباني في الآية الكريمة: " وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا" (الاسراء/31).
كما ان توسعة دور الرعاية من قبل الدولة وحتى الجهات الأهلية والاهتمام بشريحة الاطفال، تعتبر من العوامل الرئيسية التي تساهم في مواجهة هذه المشكلة، اذ ان زيادة عدد المراكز بنسبة موازية لعدد الاطفال، والتركيز على الجانب النفسي وتهيئته لمواجهة المجتمع، والاهتمام بالمحور الاخلاقي سيحمي الاطفال من خطر العصابات والجهات التي من الممكن ان تستغل هذه الشريحة في العمليات الارهابية والتسول او المتاجرة بهم، وتثقيف الأهل والعوائل في الجانب الاجتماعي وبيان اهمية تربية الطفل بين احضان اهله ومدى تأثير ذلك على الطفل وعلى المجتمع، وتعميق الواعز الديني كما يبين الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله تعالى: " الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (الكهف/46). وفي النهاية نستطيع ان نجزم بان الاهتمام بشريحة الاطفال وتربيته على الاسس الدينية والاجتماعية الصحيحة هو المحور الاساسي لضمان مستقبل البلد وتطوره نحو الافضل.
اضافةتعليق
التعليقات