كان لدوي المبرّدة صخب لا یهدأ لیل نهار، یدخل إحدی أذني لیقتطع المسافة مارا بكل الحزم العصبیة في دماغي، ویخرج من الأذن الأخری مستهزئا بكل محاولاتي الحثیثة للشعور بالاسترخاء.
قمت من السریر مستسلمة حیث لا جدوی من المحاولة، توجهت ناحیة الباب، کانت لیلا جالسة علی الأریكة الثلاثیة التي تصدرت الصالة؛ وقد تسمرت قبالة التلفاز أو بالأحری رفیق الدرب، فلم تترك مسلسلا من مختلف الأمصار یعتب علیها، أما یداها فلا تكفان عن النقر فوق شاشة الجوال في حركة خفیفة متواصلة. لا أفهم في الحقیقة کیف تقوم بمتابعة الشاشتین دون أن تفوت إحداهما.
بدت في وجهها علامات الإهتمام، لفت رجلها الیمنی علی الیسری وقالت: (أمي یقولون أن غسل الوجه بمثلج اللیمون یزید من نضارته؟!) أجبتها وأنا أتجه ناحیة المطبخ: هذا صحیح عزیزتي، إستخدام الماء والصابون مرارا في الیوم یزید من نسب الحساسیة.
دخلت المطبخ، كانت الأواني مكوّمة في الحوض تستنجد بالمارة علّ أحدهم یقوم بغسلها، والطعام مازال خارج الثلاجة علی الموقد، أما رائحة الطبخ المتبقیة کانت تتلوی في سائر الأرجاء لتستقر في أنفي آخر المطاف.
لم أنعم بالراحة منذ زوجت هذا الولد، أشارت علي جارتنا أم أحمد أن آتي بكنّة تمسك زمام الأمور في المنزل وأصبح أنا الآمر الناهي في کل شئ، ولكن هیهات! کم نبهتها عندما تنتهي من طبخ الطعام لا بد أن تقوم بتهویة المنزل ثم تعطیره بشئ من البخور و الحرمل.
نادیا!
نادیا!
هیا انزلي! ماذا تفعلین في الأعلی؟ جنّ اللیل مابك؟! لماذا الأواني ما زالت في المغسلة؟!
خرجت من غرفتها متثائبة. كانت مملوءة الشفتین، كحیلة العینین براقتین، تبدوان في الوهلة الأولی سوداوتین ولكن سرعان ما تكتشف میلانها للبني الغامق، ینحدر شعرها كحیّة ملساء نحو خصرها، یمیل في انسجام تام مع کل حرکة تقوم بها، نزلت السلالم و هي تغمغم: استیقظت منذ ساعات االفجر الأولی، کان سلمان علی موعد هام في الدائرة فذهب مبکرا.
ولجت باب الصالة و تحركت ناحیة المغسلة؛ رفعت شعرها لتكوّره فوق رأسها وغرزت فیه بكلة بیضاء کانت في یدها، ثم انشغلت بترتیب االفوضی.
_ألم أقل لكِ أن لا ترتدي هذا الثوب، إنه غیر محتشم ثم أن اللون الفسفوري الغالب في نقوشه لا یلیق بك أبدا؛ تبدین کعاملة.
ردت بصمت عمیق امتد طویلا حتی انتهائها من عملها.
تربت نادیا في أسرة میسورة الحال معروفة من الناحیة الإجتماعیة، كانت أختا ثالثة لأخوین آخرین، حاولت أسرتهم الإرتقاء بأبنائها بكل رحابة و حیویة و لم تخفق في ذلك.
قامت بغسل الملابس المكوّمة في سلة الحمام المحیكة بخوص النخل، حاكتها أیادي الفلاحات بتقنیة عفویة رائعة، ونقوش هندسیة رتیبة أدرجت في حوافها ممتدة حتی الوسط.
عمتي!
أین حبل الغسیل الذي کنت أنشر علیه الملابس؟ کان هنا في الأمس.
_أظن أن أحمد قام بفتحه حتی یشد صندوق أغراضه علی الدراجة، إذهبي و اشتري واحدا آخر من أبي قاسم.
خرجت نادیا مسرعة قبل أن یحل الظلام، بدأت العتمة تخفي ملامح الوجوه شیئا فشیئا.
ما لبثت أن عادت حتی طرق الأسماع رنین الهاتف الذی قلما سمعنا صوته بعد أن طغت فيالساحة ألحان الجوالات بتنوعها.
إنها خالة سلمان قادمة لزیارتنا مع أولادها وأسرهم.
هیا لابد من إعداد طعام العشاء. نحتاج لبعض الأغراض سوف أذهب لإحضارها أما أنت فقومي بطهي اللحم و الأرز، و حضري متطلبات الضیافة ولا تنس نقوش السفرة؛ فأختي هذه تمتاز بذوق رفیع..
علا صوت حماتي عالیا آمرا کضابط رفیع الرتبة في فرقة عسکریة.
بدأت عقارب الساعة تتراكض فيعجلة غیر مسبوقة. لم أكن متأكدة بقدرتي في إنجاز هذا الكم من الأعمال و الجزئیات برتابة ودون انقطاع.
لم یمض من زواجنا أنا وسلمان سوی بضعة شهور، کنت طالبة فی قسم العلوم البیولوجیة عندما خطبني، أما هو فطالب في کلیة الطب. کانت شخصیته خلیطا متجانسا من الحزم و الحنان. وسیما، طویلا، و جذابا، أضاف حاجبه الكث علی عینیه نمطا خاصا من الأناقة التي طغت علی سترته الكحلیة و بنطاله الذي خیط بأیاد أجنبیة. لن أنسی أبدا شذی عطره الرجولي الذي اقتحم أعماقي لیخلق تلاطما منقطع النظیر في حواسي منذ البدایة.
كان یقضي آخر تدریباته في كلیة الطب ولدیه من المؤهلات الكفیلة التي تجعله یتزوج بأي فتاة یختارها، لذا لم تسعني الدنیا برحابتها عندما فاتحني برغبته في رفقتي بعد الإنتهاء من الدوام.
مضت الأیام علی هذه الحالة و أنا لا أستطیع أن أبتعد عنه یوما واحدا. كانت لحظ عیونه تعتصرني دون رحمة و تفنیني في لحظات، لقدغمرني کلیا و سخرني ابتداء و انتهاء.
بعدما انتهی من دراسته حددنا موعدا لیتقدم لخطبتي، تمت مراسیم الخطبة والزواج في فترة وجیزة، وأنا لا أعارض حینها أي مقترح و لا أبدي أي اعتراض قد یؤدي إلی عرقلة الأمور.
لم أخطئ في اختیاري، أثبت زوجي بمرور الأیام مدی شهامته وقدرته في إدارة الأزمات و تقبل المسؤولیات بجدارة. ولکن ابتدأت الأمور تسیر بعرج عندما انتقلنا إلی مدینته و رجحنا السكن مع أسرته المكونة من سبعة أشخاص ریثما نهیئ لنا سكنا یضم أسرتنا الصغیرة. مكان صغیر یحمل في جنباته طیفا واسعا من الحب الإلهي الخالص و الخاص جدا بین زوجین حمیمین.
هتفت عمتي مداهمة کل مدن الخیال التي کنت أذرعها جیئة و ذهابا کالعادة:
نادیا!
افتحي الباب أظنهم قد وصلوا..
فتحت الباب وما هي إلا لحظات حتی استقر عشرة من الضیوف في الصالة. قمت بتکریمهم وضیافتهم بینما کانت لیلا لا تکف عن الحدیث والضحك المتعالي مع ابنة خالتها سهام.
عاد سلمان عند العاشرة مساءا، متعبا منهكا بدت علیه آثار العمل الدؤوب منذ السحر.
بعد الإنتهاء من فقرة العشاء وترتیب المطبخ وتنظیفه استئذنا وصعدنا إلی غرفتني في الطابق العلوي حیث الهدوء والراحة.
لم یكن الوقت مواتیا لفتح أي موضوع، كان قد غلبه النعاس حتی أنه آثر الصمت و عدم التعلیق بتاتا. أطبقت عیني وأرخیت جسدي وما هي إلا لحظات حتی بسط لي النوم جناحیه.
أستلطف دوما صباح الجمعة فثمة وقت إضافي للحدیث دون إزعاجات الروتین الیومي.
فاتحته بوضع الأسرة وضرورة إدارة الأعمال وتقسیمها في المنزل.
ظهرت في جبینه خیوط الإستغراب.
هل أنت منزعجة من شئ؟!
أجل!!
أنا لا أستطیع القیام بأعمال تسعة أشخاص في المنزل بمفردي، لا بد من تقسیم الأعمال.
أجاب بتعجب: وهل الأمر غیر ذلك؟!
قلت: نعم، أنا أقوم بكل الأعمال بمفردي منذ شهرین.
عندما نزلنا وانتهینا من طعام الفطور سأل مستفسرا:
أمي! لماذا لا تقوم لیلا بمساعدة نادیا؟
وقعت کلماته كالسهام، کانت تظن أنني لن أفاتح ولدها بمثل هذا الموضوع بتاتا.
أجابت بتلعثم:
یا ولدي تعرف أن لیلا تحاول التحضیر لامتحانات البكلوریا النهائیة.
وهل هذا یمنعها أیضا من أن تأكل و توسخ ملابسها؟!
زمّت شفتیها بانزعاج وأردفت:
هات إذا ما المطلوب؟! لا تقوم زوجتك بعمل خالص لله أبدا لا بد من تسمیمه بلدغاتها؟!
کانت فرائصي ترتعد کالسعفة عند اشتداد الریح، بدت الریبة تسري في قلبي، لیتني لم أبح له بشئ! ماذا ستکون النتائج؟! إلی أي معترك تعدني الحیاة؟!
لم تمض لحظات حتی تسللت لیلا من غرفتها وهي تلوك بعلکة في فمها:
نحن في منزلنا نعمل فیه متی نشاء أما أنتم فدخلاء علیكم أن تدفعوا ثمن إقامتکم، و طبعا کان کلامها موجها لي.
إنهارت علي لكزتها كالصاعقة وكأن السماء قد وقعت علی رأسي فلم أتوقع منها هذا التصرف؛ لم تر مني سوی المعروف و الجمیل في تلك الفترة.
تطایرت شرارات الغضب من عینیه في كل اتجاه، کان سلمان رجلا بكل معنی الکلمة و كنت أتفادی إغضابه في کثیر من الأحیان سحبني من یدي بشدة نحو السلالم. حسنا إذا کانت إقامة ممتعة، إذهبي و وضبي أمتعتنا سوف نذهب من هنا.
إنهالت نبراته کالسیف، لن تهضم أمه مثل هذه االفکرة أبدا، خصوصا وأنه ولدها البکر وعلیه اعتمادها في کل شئ تقریبا.
تجهم وجهها و تصاعد الدم في أخادیدها.
ما هذا الهراء؟! هل ضاق بكم المنزل حتی تذهبوا لمكان آخر؟ لا أسمح بهذا الشئ أبدا لا یحق لك یا سلمان تركنا أنا أمك یا ولد...
لكنه کان صارما أبدا منذ عرفته، لذا كنت أتقي لاءه لأنه إذا لفظها لا یتراجع عنها بسهولة.
أمي ما بك؟! لا یرضی بالظلم حتی رب السماوات، کل یظلم علی شاكلته هل ترضین أن یحشرك الله مع الظالمین؟! أن أرحل أنا خیر من أن ترحل الأحاسیس والمشاعر و الحب و الود و ینهار جدار الحرمات؛ سأهیئ مسکنا قریبا في نفس الحي، یمكنك زیارتنا متی شئت و لن أفوت فرصة لزیارتكم قدر المستطاع، سنكون علی تواصل فلا تفكري بالموضوع و لا تعیریه اهتماما بالغا.
كانت هذه آخر کلماته قبل أن نخرج باحثین عن بیت سعید یضم أسرتنا الصغیرة أنا و سلمان و طفلنا القادم بعد ستة شهور.
بعد فترة وجیزة قمنا باستئجار مشتمل صغیر بغرفتین و صالة لا تتجاوز مساحة إحداهما الخمسة عشر مترا مکعبا، صبغه سلمان بلون سکري هادئ فبدی جدیدا کلیا وقام ببعض الترمیمات في المغاسل و الحمامات و مطبخه الصغیر بأرضیته السیرامیكیة البیضاء التي انعکست أشعتها في سائر أرجاء المکان تنشر البهجة و العنفوان. زینت جدرانه بساعة صغیرة توعز دقاتها ببزوغ الأمل و تعدد الخیارات، أما في زاویة الرف صففت سندانا ملیئا بورود الیاسمین الزهریة المائلة إلی البیاض والضاربة في كل المتاهات مستهزئة بکل الأمواج المتلاطمة.
كانت الدنیا لا تسعنا و نحن نحاول بناء عشنا و لملمته.
قام کل من أخوي بإهداء ثلاجة وغسالة للملابس، أما أمي فأهدت لي مكنسة كهربائیة من النوع الفاخر مبررة ذلك بأن الأرضیة یجب أن تکون نظیفة دوما، خالیة من ذرة غبار ومخلفات عند ولادة الطفل الصغیر خوفا من إصابته بالحساسیة.
شعور غریب فار من عمق وجودي لا أدري هل کان فرحا أم إحساسا مفرطا بالمسؤولیة و تحمل الصعاب التي کانت تتحلحل بمرور الأیام. لقد حظیت بوقت إضافي لنا أنا وسلمان، کنت أرتدي ما أشاء وأنام متی أشاء و أستیقظ. و الأحلی من ذلك لحظات السمر والخصوصیة التي بدأنا نعتادها كل مساء.
بدأن صدیقاتي بالتردد علي بین الفینة و الأخری، و کذلك أخوتي و أخواتي وأمي الحنون التي اشتقت لزیارتها منذ تزوجت.
و العجیب الغریب أن أواصر العلاقة مع أهل زوجي بدأت تشتد بعد أن ذاب الجلید و استحوذ مکانه نوع من الرسمیة و تبادل الإحترامات و الضیافات، بدل المناوشات الیومیة و التدافع البغیض لأخذ الحقوق منذ بدایة الصباح کل یوم.
الحیاة المتوازنة و التي یسودها الهدوء، و تسوّرها هالة الإطمئنان من أشد مقومات الأسرة الغضة، و التي تحتاج لنوع من الحمایة حفاظا لها من کل طوارق الزمان و خصوصا في زماننا، لذا کان لا بد أن تحظی بالإنفراد و رسم الخطی المدروسة و استخدام الأدوات المتاحة من أجل الخروج بأجود النتائج، لا سیما بعد ولادة الأطفال و ضرورة فرض بعض الأنظمة الإداریة لتسییر الأمور المنزلیة برتابة و انسابیة.
اضافةتعليق
التعليقات