في ليلة ليس لها مثيل، أسدل الظلام ستاره الأسود على كتف السماء وغطى بلونه الساحر على تلك الأجواء الأسطورية التي لا نسمع عنها إلاّ في قصص ألف ليلة وليلة، وبين وقع الطبول وأصوات الهلاهل، ظهرت من بين الجموع الغفيرة أميرة صغيرة تدعى كوهرشاد وجهها كفلقة القمر، عيناها كحبتي لؤلؤ وأنفها الممشوق يتوسط بين وجنتيها الحمراوين من شدة الحياء.
متغطية بوشاح أبيض لا يظهر منها إلاّ وجه ملائكي يسطع منه نور محمد وآل بيته، تحوم حولها الجواري التي تحاول كل واحدة منها أن ترفع جزءا من الوشاح المطرز باللؤلؤ والمرجان حتى لا تتعثر العروسة وهي تسير نحو عريسها الأمير شاهرخ.
وبقي القمر مترنحا في مكانه يتأمل مستقبل تلك العروس الخراسانية التي لا تبلغ من العمر إلاّ أربعة عشر عاما وهي تدخل الحياة الملكية من أوسع أبوابها.
ولأن لكل شيء نهاية، انتهت تلك الليلة التاريخية نهاية رائعة بزفاف السلطان شاهرخ تيمورلنك من الجميلة كوهرشاد بنت الأمير غياث الدين ترخان.
ومرت الأيام بصورة سريعة وعاش الزوجين حياتهما المشتركة سوية بحلوها ومرها، وكانت السلطانة خير رفيقة للسلطان في دروبه وأسفاره، حتى توسعت نفوذ السلطان شاهرخ في بلاد فارس وبلاد ما وراء النهرين واستطاعت الجميلة أن تبني لنفسها مكانة كبيرة في قلب زوجها، فكانت له الحبيبة والصديقة والمستشارة، ومحل ثقته في أمور كثيرة تخص أحوال البلاد ومصلحة الأمة.
ولم يقتصر الجمال والبهاء على وجهها فحسب بل أصبحت تنثر الجمال أينما حلت، فالمرأة التي كانت تلقب ببلقيس زمانها لم يقتصر اهتمامها على نفسها فقط، بل اهتمت كل الاهتمام بمظهر بلادها، وركزت على البناء والإعمار، وجعلت من الفنانين والمعماريين موضعا لاهتمامها، وتبنت العلماء والشعراء والأدباء ودعمتهم بكل ما اوتيت من قدرة، لأنها عرفت بأن مقياس تطور البلاد يكمن في علماءه ونوابغه لهذا السبب فسحت المجال للعلم والفن أن يأخذا دورهما الكامل في محافل البلاد، فتركت خلفها أثرين معماريين أصبحا حديثي العالم أحدهما مسجد رائع في فن التصميم والزخرفة سمي على اسمها جامع كوهرشاد في مدينة مشهد، وآخر في هرات.
وبصمة اهتمامها تجاه العلم والفن كان جليا للملأ، كما أنها استطاعت بالتطور والجمال أن تحافظ على اللون الأساسي للإسلام في عصرها، فقد كان هنالك رجلا يدعى (عبد القادر مراغي) غضب السلطان منه بسبب فعل معين، ولحسن الحظ أن هذا الرجل كان شخصا مميزا بل وموسيقار القرن التاسع، وقد اقترحت السلطانة عليه أن يستعين بموهبته ويتلوا آيات من القران الكريم بلحن جميل عسى أن يمتص بذلك غضب السلطان فيعفو عن جرمه، وبالفعل هذا ما حصل...
رتل الرجل بضع آيات من القرآن الكريم بلحن شجي أنزلت على قلب السلطان الهدوء والسكينة ففرح السلطان بذلك وعفا عما سلف.
ولكن مع كل السلطة وعمق المكانة الاجتماعية التي كانت تتمتع به السلطانة كوهرشاد لم تنسَ أبدا واجباتها تجاه أطفالها، فبعدما رزقها الله بطفلين (ميرزا غياث الدين، وميرزا سلطان إبراهيم)، نذرت حياتها في تربية هذين الولدين، وهيأتهما نفسيا ودينيا وصنعت منهما رجالا صالحين عسى أن يقدر الله ويكونا من جنود امامهما المنتظر.
وعرفت جيدا بأن رسالة الإسلام هي صناعة الانسان الصالح، فطبقت وصايا دينها وعرفت بأن مركزها الاجتماعي والسياسي لن يغنيها عن دورها الكبير في تربية أطفالها وصقل شخصيتهما وفق المبادئ الإسلامية..
فبذلت كل ما تملك حتى خلقت منهما أشخاصا نافعين في المجتمع قادرين على تكملة المسير بعد والدهما في الحفاظ على الدولة وخدمة شعبها، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والمعرفة وامتهنوا الحرف وباتوا من أبرز الفنانين في فن (الخط) في بلاد فارس فقد ترك الأول أثرا عظيما يشهد له في مسجد كوهرشاد إلى يومنا هذا بخطه الجميل، بالإضافة إلى نسخة من ملحمة فردوسي التي ماتزال موجودة في متحف مدينة مشهد، والثاني شاعر وفنان راقٍ، ومؤرخ وما زالت آثاره تشهد لإبداعه في متاحف البلاد.
ولأن السلطانة كانت تمتاز بالتريث والحكمة البالغة في اتخاذ القرارات، لهذا السبب كانت تلعب دورا سياسيا كبيرا في حكومة زوجها، ووقفت بجانبه ودعمته وهو بدوره وبسبب الفطنة والذكاء الحاد الذي كان يراهما فيها أفسح لها المجال بأن يكون لها دورا مهما في السلطة، وقد أدى هذا الدور الحساس الذي لعبته هذه السيدة في ازدهار ونمو البلاد بالإضافة إلى التركيز العميق على مكانة المرأة وأهمية دورها في بناء المجتمع..
وما كان هذا الدور الذي لعبته إلاّ دور المرأة الممهدة لحكومة إمام زمانها، إذ كانت الملامح الإسلامية جلية في طريقة تعاملها مع الناس، بأخلاقها وحجابها وتدينها والتعبير الراقي عن الدين بالفن والتطور، فكانت من المنتظرات الواعيات اللاتي لم يشأ الله أن يشهدن الظهور في حياتهن..
كما أن زوجها السلطان الذي وجد الإيمان في محياها كان يأخذ قراراتها بعين الاعتبار ويحلها محل التنفيذ، لأنه كان شديد الثقة باختياراتها ويعرف جيدا بأنها درست قراراتها بصورة عميقة، وأن هنالك أهدافا دنيوية وأخروية وتبعات مهمة تلحق تلك القرارات، ففي أحد الأيام استطاعت أن تقنع السلطان بإصدار العفو العام على جميع السجناء الذين صدر في حقهم أمر الإعدام، تزامنا مع ولادة حفيدهم الأول!
فقد كانت الفكرة انقاذ أرواح الناس واعطاءهم فرصة ثانية للحياة عسى أن يحسنوا التصرف ويقدروا نعمة الحياة ولا يبيعوا أرواحهم بثمن بخس!، فالله تعالى يعفو عن ذنب العباد فمن هم كي لا يعفو عن بعضهم البعض؟، وبالفعل تم تنفيذ الأمر من قبل السلطان وحصل المحكومين على فرصة ثانية للحياة.
ولأن الحياة تستمر، لم تنتهي حياتها عند موت زوجها بل وقفت وقفة صمود وقوة، وعرفت بأن مسؤوليتها الآن أكبر من ذي قبل، وعليها أن تقف بكل شموخ وتكمل درب الحق، فألزمت الحكم وسيطرت على قوام البلاد بموقف سياسي حازم، وحافظت على استقامة الدولة حتى انتقال الحكم إلى الأولاد والأحفاد الصالحين الذين يستحقون أن يكونوا رعاة للأمة، فلعبت دورا قياديا مهما في عصرها. فحكومة مثل حكومة تيمورلنك التي كانت تتمتع بالتطور والازدهار كان لابد أن تقودها امرأة واعية وذات حنكة سياسية تدبر من خلالها أمور الرعية وتطمح إلى المزيد من التقدم، فحكومة السلطان لا تريد نساء أميات وغير واعيات لمفاهيم العصر وغير مهتمات بعملية صناعة الانسان، بل نساء قياديات يجدن الأساليب الصحيحة في قيادة الأمة الإسلامية نحو الصلاح والايمان.
ولم يكن موقفها السياسي والاجتماعي وثقافتها الفذة ووعيها الإسلامي ومواقفها الكبيرة إلاّ عملا تمهيديا لحكومة السلطان الأكبر وإمام زمانها، لأن عملها كان نابعا من عمق التكليف وإحساسها بالمسؤولية في غياب السلطان الأكبر، حاملة في ثناياها رؤية مهدوية غير متعلقة بالأمور الدنيوية، ولحزم مواقفها تجاه الحق في عدم قبول الباطل من الاستفحال في البلاد وثبات موقفها الاسلامي وتحملها الجاد للتكليف الإلهي.
حيكت لها مؤامرة شنعاء أدت إلى مقتلها في عمر الثمانين، فحلقت بروحها الطاهرة إلى السماء واستقر جسدها بجانب زوجها وولدها في جامع هرات، وخلفت للمرأة المسلمة بدورها القيادي لوحة من الصمود والقوة والتحدي التي يجب أن تتمتع به كل امرأة مسلمة في هذا العالم، حتى تساهم في عملية التمهيد المهدوي لحكومة السلطان الأكبر.
المصدر: دراسة في نشاطات كوهرشاد السياسية، الثقافية والحضارية في عصر تيمورلنك/ بحث: زينب معرفيون، نوروز بني سعيد)
اضافةتعليق
التعليقات