في زماننا هذا، أصبح المتمسك بدينه كالغريب بين الناس، وكأن الثبات على المبادئ والالتزام بالقيم الروحية صار في أعين البعض ضربًا من التخلف والرجعية.
فقد بات الاختلاف يُعدّ تخلفًا، وبالمعنى الأصح ليس اختلافًا بقدر ما هو ثبات على الدين والهوية وثقة بالنفس. ولكن بجهل المندرجين في المجتمع، ولِما يُطرح في الساحة الآن، يُنظر إلى هذا الثبات بعين التخلف. نعيش الآن في مجتمع ينظر إلى الالتزام كعائق أمام "التحضر"، وينعت الثابتين على الحق بأوصاف تحاول التقليل من شأنهم، بينما هم في الحقيقة القمم الشامخة التي لم تنحنِ أمام رياح الفتن.
وقد أخبرنا النبي (صلى الله عليه وآله) عن هذه الحال حين قال:
«يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر».
فأي مشقة أعظم من أن يُطالب الإنسان بأن يُمسك جمرة ملتهبة بيديه، لكنه مع ذلك يُؤمر بالصبر والثبات!
وفي هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، نجد في كلمات أهل البيت (عليهم السلام) دعوات صريحة إلى الصبر والثبات. فقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
«من استمسك بدينه في الفتنة كان له أجر خمسين شهيدًا ممن استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله».
وهذا الحديث يُبيّن لنا عِظم الأجر الذي أعدّه الله للثابتين، الذين لم تُغيّرهم زخارف الدنيا ولا أراجيف المبطلين. إن القوة الحقيقية ليست في التنازل والانصهار في ثقافة الباطل، بل القوة في الثبات على المبادئ ولو خالفك الناس. قال الإمام علي (عليه السلام):
«الثبات باعث الظفر».
أي أن الظفر الحقيقي، والانتصار في الدنيا والآخرة، هو لمن ثبت على الحق.
ففي غمرة هذا العصر الذي يموج بالتغيرات المتسارعة، وتُصنَّف فيه الثوابت أحيانًا على أنها تخلف ورجعية، يواجه الإنسان تحديًا حقيقيًا للحفاظ على هويته وقيمه. فالمجتمع اليوم يميل إلى التماهي مع كل جديد، ويُعظّم الانفتاح المطلق، مما قد يُفقد الكثيرين بوصلتهم الروحية والأخلاقية. ولكن في خضم هذا التيار الجارف، يبرز نور الثبات على المبدأ والإيمان كقوة دافعة تحمي الإنسان من التيه والضياع.
إن الالتزام بالقيم والمبادئ، والتمسك بالدين في وجه عواصف الفتن، ليس علامة ضعف أو جمود، بل هو قمة القوة والعزيمة. فقد أصبح التقلب والتغير هما السمة الغالبة، وما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، هو أن نكون أشخاصًا ثابتين، لا تتبدل قناعاتنا مع كل صيحة، ولا تتزعزع مبادئنا مع كل موضة.
لقد حذّر أهل البيت (عليهم السلام) من زمن الغيبة وما يحمله من فتن واختبارات، مؤكدين أهمية الثبات على الدين. فقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
«طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا، لم يغيره الله تعالى إلا إلى خير».
هذه الكلمات ليست مجرد نصيحة، بل هي بشرى لكل من يتمسك بإيمانه وقيمه في زمن الفتن. فالتمسك بالدين ليس مجرد شعائر تُؤدى، بل هو منهج حياة، ورؤية عميقة للكون والإنسان، تُثبت القلب والعقل.
كما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله:
«يأتي على الناس زمان، لا ينجو فيه إلا من ثبت على دين الله عز وجل، وتمسك به، ولم يتحول عنه إلى غيره».
هذا الحديث الشريف يؤكد أن النجاة في أزمنة الفتن ليست بالانسياق وراء التيار، بل بالرسوخ والثبات. أن تكون قويًا بإيمانك يعني أنك قادر على التمييز بين الحق والباطل، بين ما هو أصيل وما هو زائف، وأن تمتلك البصيرة التي ترشدك في دروب الحياة الملتوية.
إن بناء الإيمان القوي والثابت يتطلب جهدًا ومثابرة. إنه يتطلب التعمق في فهم الدين، والتدبر في آيات الله، والاقتداء بسيرة الأطهار. كما يتطلب الثقة المطلقة بالله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه في كل أمور الحياة. فكلما ازداد إيمان الإنسان، ازدادت قدرته على مواجهة التحديات والصمود أمام المغريات.
دعونا لا ننساق وراء الدعوات التي تُزيّن الانحراف وتُقبح الثبات. فالحضارة الحقيقية لا تُبنى على التخلي عن القيم والمبادئ، بل على التمسك بها وتطويرها بما يخدم الإنسان ويرتقي به.
إن المؤمن القوي بدينه هو من يعرف الحق فيتبعه، ولا يلتفت إلى سهام الاستهزاء ولا إلى ألسنة السوء.
اضافةتعليق
التعليقات