يشعر المصاب كما لو أن عقله آلة تعمل طوال الوقت وبتوتر مستمر أشبه بخشخشة أو ضوضاء بيضاء لا تتوقف في الخلفية بالمخ، عقل الشخص البالغ المصاب بقصور الانتباه لا يهدأ أبداً، هو عقل حائر لا يجثم في مكان واحد، ويخشى أن يختلي بعقله ولو للحظات معدودة، ينطق عليه ما كتبه الطبيب النفسي الاسكتلندي آر دي لاينغ أن البشر يخشون ثلاثة أشياء: الموت والبشر الآخرون وعقولهم.
أصبح من المألوف اليوم أن تسمع أحدهم يصف نفسه قائلاً "لدي تشتت انتباه"، بل ويسميه بمصطلحه العلمي "أي دي أتش دي"، ووصل الموضوع إلى درجة أن يظهر المؤثرون ليتحدثوا عن تجربتهم مع هذا الاضطراب ليصبح ترنداً تتناقله الألسن، إذ نمت أخيراً هالة سحرية فاتنة حول اضطراب قصور الانتباه، وارتبط بالنجاح والتميز وبمبدعي وفناني العالم من موسيقيين ورسامين وكتاب ورياضيين وعلماء ومخترعين ورجال أعمال.
وعلى رغم شيوع تشخيصه في الأعوام الأخيرة فإن أعراضه مُيزت منذ عام 1902 كذلك فإن العلاجات الدوائية ذات الأثر المنبه التي تستخدم في وقتنا الحاضر تعود إلى ستة عقود مضت. ومنذ ذلك الحين أطلق على الاضطراب الكثير من الأسماء وتعريفه الحالي يستمد من النسخة الرابعة من الدليل التشخيصي والإحصائي، الذي يعد بمنزلة الكتاب المقدس والمرجع الأساسي لجمعية الطب النفسي الأميركية، وفيه يعرف اضطراب قصور الانتباه على أساس سماته الخارجية لا تأثيراته في الحالة النفسية للمصابين به ومشاعرهم وبيئتهم الداخلية.
بين الجينات والبيئة
وأخذ هذا الموضوع في الأوساط العلمية والثقافية منحى آخر، إذ برز جدال عام حول أسبابه، ليعزوه البعض إلى الجينات والبعض الآخر ربطه بالتربية الخاطئة، في حين تحدث صوت ثالث عن الدور التبادلي المحتمل بين البيئة والجينات وتأثيرها في التكوين الفيزيولوجي والعصبي (فرع من علم وظائف الأعضاء يدرس وظائف الجهاز العصبي) للأطفال الذين ينشؤون في ظل عائلات غير مستقرة ومجتمع يفرض ضغوطاً هائلة على أبنائه.
وأثبت علم الأعصاب أن تكوين المخ البشري لا تمليه الجينات الوراثية وحدها، وإنما ما يحدث أيضاً بعد أن يأتي الطفل إلى العالم، بل ما يحدث كذلك وهو لا يزال جنيناً، كلها عوامل تسهم في تشكيل الدارات العصبية للدماغ، فلعواطف أولياء الأمور ومشاعرهم ونمط حياتهم أثر كبير في تكوين أدمغة أطفالهم.
لكن اللافت أن البعض أصبح يستخدمه بمثابة تبرير يرخص له عدم تحكمه في أقواله وأفعاله، فتفسير البعض لسلوكياتهم تفسيرات الفيزيولوجية العصبية يحاول إلقاء اللائمة على الدارات العصبية المخية وتجعله أسيراً لشعوره بأنه ضحية.
ثلاث سمات
يتميز هذا الاضطراب بثلاث سمات رئيسة (تكفي اثنتان منها لتشخيص الشخص به) وهي، ضعف التركيز والانتباه والاندفاعية وفرط النشاط، في حين أن وجود فرط النشاط ليس شرطاً أساسياً لتشخيص المريض باضطراب قصور الانتباه.
وتتمثل السمة الأبرز لاضطراب قصور الانتباه في انفصال الشخص عما يحدث حوله فجأة وبشكل آلي وقسري، لذا يكتشف المرء فجأة أنه لم يعد يسمع ما كان يصغي إليه، ولم يعد يرى ما كان يتطلع إليه بعينيه، ولم يعد يتذكر ما كان يحاول التركيز عليه، وينسى المصاب المعلومات والاتجاهات ويضع الأشياء في غير مكانها، ويعاني لكي يكمل محادثة إلى نهايتها.
والسمة الثانية الشائعة هي الميل إلى الاندفاع في القول والفعل إلى جانب ضعف القدرة على التحكم في الاستجابات العاطفية، فالشخص المصاب بالكاد يستطيع أن يمنع نفسه من مقاطعه الآخرين ويجد صعوبة كبيرة في انتظار دوره في أي نشاط من الأنشطة، وغالباً ما يتصرف أو يتحدث باندفاع.
أما فرط الحركة فيظهر على شكل صعوبة بالغة في بقاء المرء ساكناً على المستوى الجسدي، في حين يظل من الوارد أن تأخذ شكلاً أقل وضوحاً يظهر على شكل تململ، أي نقر بأصابع القدم أو اليد وتوتر في الأقدام وقضم الأظافر واصطكاك الأسنان، أو قد يأخذ شكل ثرثرة، والثرثرة من الأعراض التي تكسب العديد من الأطفال سمعة سيئة بسبب حديثهم بلا انقطاع، كما لو أن الطفل يحاول أن يقول إنه يعاني العزلة عن الناس أو يتوق لبناء علاقات معهم ولا يعرف طريقة القيام بذلك سوى من خلال الكلمات.
ويترافق التململ مع التسويف وتأجيل القيام بالمهمات لفترة طويلة، والسبب أنه لكي يثار جهاز التحفيز والدافعية لدى المصاب بالاضطراب فإنه يحتاج لأن يكون الوعيد بالعقاب أو الوعد بالثواب فورياً، لأنه من السهل أن يتمكن منه الكسل من دون حافز قوي يستحث إطلاق دفعة مفاجئة من الأدرينالين تجعله يشعر أنه في سباق مع الزمن.
كل من حولك يتحدث
يشعر المصاب كما لو أن عقله آلة تعمل طوال الوقت وبتوتر مستمر أشبه بخشخشة أو ضوضاء بيضاء لا تتوقف في الخلفية بالمخ، عقل الشخص البالغ المصاب بقصور الانتباه لا يهدأ أبداً، هو عقل حائر لا يجثم في مكان واحد، ويخشى أن يختلي بعقله ولو للحظات معدودة، ينطق عليه ما كتبه الطبيب النفسي الاسكتلندي آر دي لاينغ أن البشر يخشون ثلاثة أشياء: الموت والبشر الآخرون وعقولهم.
بينما يصف أحد الأطباء الأمر كما يلي "تخيل أنك تقف وسط غرفة شديدة الازدحام وكل من حولك يتحدث وفجأة سألك أحدهم ماذا قال فلان للتو؟ هذا ما يدور في مخ المصاب باضطراب قصور الانتباه".
ما هو اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة وما علاجه؟
كذلك يصف الطبيب النفسي الكندي غابور ماتيه، الذي قدم بحثاً متكاملاً عن هذا الموضوع في كتاب "عقول مشتتة"، حال المصاب "لقد بدا أن اضطراب قصور الانتباه يفسر الكثير من أنماطي السلوكية وأفكاري واستجاباتي العاطفية الطفولية وإدماني العمل ونوبات المزاج السيئ المفاجئة وتصرفاتي التي تفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية في أثنائها وخلافاتي مع زوجتي وفقداني لرباطة جأشي فجأة، كذلك يفسر أيضاً دعاباتي الغريبة المفاجئة وميلي إلى التعثر عند عتبات الأبواب واصطدام رأسي بالأرفف وإسقاطي للأشياء وعجزي عن اتباع الإرشادات أو تذكرها عندما أسأل أحدهم عن الطريق، والشعور بأنني لم اقترب يوماً من التعبير عن ذاتي تعبيراً كاملاً أو من إدراك ذاتي إدراكاً كاملاً أو أن لدي إمكانات غير مستغلة أو طاقة مهدرة".
النجاح في ريادة الأعمال
والحقيقة أن دراسات عدة تربط بين هذا الاضطراب والنجاح في ريادة الأعمال، إذ توصلت دراسة علمية حديثة نشرت عام 2024 أجرتها كلية "جون تشامبرز" للأعمال والاقتصاد بجامعة فرجينيا الغربية، إلى نتيجة مفادها بأن أدمغة الأشخاص المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه تعمل بطريقة يمكن أن تفيدهم في مجال ريادة الأعمال، وأن رجل الأعمال المصاب بهذا الاضطراب قادر على استخدام الإجراءات والأنماط المعرفية مثل شبكة كبيرة تلتقط وتخزن المحفزات من البيئة لاستخدامها لاحقاً.
كذلك فإنهم يميلون إلى المعالجة المعرفية السريعة واتخاذ القرارات الفورية والقفز إلى الاستنتاجات، إضافة إلى عيشهم في حالة من التحفز المستمر ما يجعل انتباههم يتحول بسرعة من البيانات القديمة إلى الجديدة، وفي حين أن المخاطرة التي تعد جزءاً لا يتجزأ من الأعمال، ترتبط ارتباطاً وثيقاً باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات