في زحام الأصوات المليئة بالحنين، جلست فتاة تصغي لأحاديث زميلاتها عن آباء يشبهون الحصون. إحداهن تروي عن أبٍ لم يعرف الكلل، يسهر ليوفر لها ما تريد، وأخرى تتغنّى بضحكاته وحكاياته التي تملأ بيتها دفئاً، وثالثة تبكي والدها الذي ابتلعه الموت لكنه ظل حياً في تفاصيلها، ورابعة تعترف أن أباها المريض صار طفلها الذي ترعاه بكل فخر. أما هي، فكان صمتها أبلغ من كل الكلمات، وكان قلبها يرتجف من سؤالٍ تعرف أنه سيأتي: “وأنتِ، ماذا عن أبيك؟”.
كيف تُجيب؟ ماذا تقول عن رجلٍ لم يمت، ولم يغب بجسده، لكنه لم يحضر يوماً بروحه؟ كيف تصف أباً كان موجوداً في البيت، لكنه كان غائباً عن الحياة، عن الأحاديث، عن لحظات الحنان الصغيرة التي تُبنى بها ذاكرة الأبوة؟ لقد حاولت أن تفتش في أرشيف طفولتها عن مشهد واحد يجمعها به، عن كلمة دعم، عن ابتسامة رضا، لكنها لم تجد إلا بروداً يجلدها وصمتاً يُرعبها.
كانت هي الوحيدة بين إخوتها، تظن أنها مدللته، لكنها كانت أكثرهم انكساراً. ظلت تراه بطلاً في خيالها، ثم بطلاً سقط، ثم شبحاً يُخيفها ولا يؤنسها. لقد كبُرت وهي تحمل في قلبها سؤالاً مُلتهباً: لماذا لم يكن أبي أباً كما ينبغي؟ لماذا لم أحب في عينيه ملامحي؟ لماذا كنتُ غريبة في حضرته؟.
هذا هو العقوق الذي لا يُكتب عنه كثيراً: عقوق الأب لابنته. عقوق لا يُقاس بالصوت المرتفع أو اليد الغاضبة، بل بغياب الحضور، بقتله المعنوي للطفولة، بحرمانها من أبسط حقوقها: أن تشعر أن لها مكاناً في قلبه. إن الأب حين يعق ابنته لا يسلبها لحظة عابرة، بل يسلبها ثقتها بذاتها، يتركها تكبر وفي قلبها سؤال ملتهب: “أي ذنب فيَّ جعلني غير كافية لأحظى بأب يحتويني؟”.
لقد كبُرت وهي تتعلم أن تحمل أعباءها وحدها، أن تكون صلبة في وجه الانكسار، أن تبحث في داخلها عن سندٍ يفترض أن يكون خارجها. لكنّ القوة المبكرة ليست بطولة، بل جرح مغلف بالصلابة. كل فتاة تحتاج إلى أبٍ يعلّمها أن العالم مكان آمن، أن الرجال يمكن أن يكونوا عطاءً لا تهديداً، أن قلبها يستحق أن يُحاط بالحب. وحين يتخلى الأب عن هذه المهمة، فإنه لا يعق ابنته وحدها، بل يعق مستقبلها، يعق نظرتها للعلاقات، ويعق صورة الرجل في خيالها كله.
في أعماق النفس، يترك العقوق ندوباً خفية لا تراها العيون. ذلك العقوق الذي مارسه والدها لم يسرق طفولتها فحسب، بل انتزع منها صورة الرجل في حياتها كلها. تركها تسير تائهة، تبحث عن الأمان في وجوه الآخرين، أو تهرب من فكرة الرجل خشية تكرار الخذلان. حاولت مراراً أن ترسم له ملامح أب صالح في خيالها، أن تمنحه صورة تستحقها، لكن كل محاولاتها كانت تتكسر بين يديها كما تتشظى المرآة المشروخة، التي لا يمكن أن تعكس وجهاً كاملاً أبداً.
إن عقوق الأب لابنته جريمة صامتة، لا تُسجّل في دفاتر القضاء ولا تُعاقبها القوانين، لكنها تزرع ندوباً في الروح لا يراها أحد. الأب الذي يعق ابنته لا يعقها في حاضرها فقط، بل يُعقّد مستقبلها أيضاً، يحرمها من التوازن العاطفي، من الأمان، من صورة الرجل الذي تستحق أن تراه سنداً لا شبحاً.
لقد كان يمكن لتلك الفتاة أن تتحدث بين زميلاتها عن أبٍ عظيم كما يفعلن، لكنّها لم تجد ما تقوله سوى صمتٍ ثقيل. صمتها كان مقالاً، ودمعتها كانت شهادة. وحين التفتت إلى ذاتها سألت سؤالاً لا يُجاب: كيف يكون الأب أقسى من الغياب، وأشدّ فتكاً من الموت، حين يختار أن يعق ابنته باللامبالاة.
اضافةتعليق
التعليقات