إن الثروة المعرفية، في الواقع، تُصادق على التصور الأوسع، فيتم استغلال كافة أشكال الطيف المعرفي لدى كافة أشكال الطيف الاجتماعي.
وربما تكرر لدينا، في أكثر من مكان، أن بعض الأفراد أو الدول برزوا في واجهة الأهمية عن طريق اختراع أجهزة الحواسيب وتقنيات الاتصال، وابتكار أنظمة معلومات وبرامج للحاسوب، فضلًا عن الاختراعات التي تتوالى في المجالات الأخرى، وهناك آخرون حققوا ذلك من خلال توفير مضمون أو محتوى تتباين الرؤى حوله، بدءًا بالإخباريات والبيانات حتى الترفيهيات.
الرأسمعرفية مقارنة بالرأسمالية:
طبيعة الامتلاك:
امتلاك المعرفة يختلف عن امتلاك الثروات المادية. فالتقدم الاقتصادي الكمي ارتبط بتراكم الثروات السابقة إنتاجها، فيما يسمى بالتراكم الرأسمالي، الذي يمكن أن تتركز ملكيته في أيدٍ قليلة، قد تنحصر في الدولة حيثما تُطبَّق رأسمالية الدولة، أو في مجموعة أفراد كما يحدث في بعض مواطن الاقتصاد الحر.
أما التقدم النوعي، فيرتبط بتطوير القاعدة المعرفية والإضافة إليها من خلال خلق المعرفة، وهو ما يمكن أن ينتشر بين أفراد المجتمع في ديمقراطية معرفية، تتيح للجميع فرص الإسهام فيها والانتفاع بحصيلتها، رجالًا ونساءً، أياً كانت أوضاعهم الاجتماعية أو مستوياتهم الاقتصادية أو فئاتهم العمرية.
ويُفصّل "نجم" - مع تصرّف منا في التعبير - تحول وضع الملكية أو الامتلاك على النحو التالي:
إن الملكية لم تكن قوية، مقدسة، ومنظمة مثلما كان عليه الحال في الاقتصاد الصناعي؛ ذلك لأنه، في الاقتصاد الزراعي، كانت الأرض هي قاعدة الثروة، وهي هبة المنعِم سبحانه، سواء في الجني أو الإنتاج.
أما في الاقتصاد الصناعي، فإن السلعة المصنّعة حلت محل الموارد الفطرية، ليصبح رأس المال هو قاعدة الثروة، ورمزها المعبر يتمثل في الآلة، وهي نتاج بشري وامتداد للوجود المادي للبشر في الوقت نفسه.
ولعل هذا ما كان يمنح الملكية الفردية شيئًا من القدسية، ويجعلها تحقق لصاحبها النصيب الأوفى من العائد، ويبقى الفتات لذوي الجهد من البشر الذين يعملون في منشآته.
ولكن مع اقتصاد المعرفة، الذي أصبحت فيه الأصول المعرفية هي الأساس، وأصبح صاحب المعرفة هو المالك الجديد لحركة الإنتاج الجديدة والأصل الأهم، تغيّرت العلاقة بين صاحب الرأس المالي وصاحب الرأس المعرفي في الشركة، إلى الدرجة التي يعتبر فيها أحد الدارسين، "هاندي"، أن من غير المقبول، من وجهة نظر العدالة والإنصاف، أن يكون العاملون (المعرفيون) الذين يعملون في الشركة ويُعَدّون أهم أصولها تابعين لأفراد آخرين (حملة الأسهم الذين لا يعملون فيها ولكنهم يملكونها).
كما يرى أنه من المهين للديمقراطية أن يكون الأفراد الخارجيون ملاكًا للشركة يديرونها مركزيًا، ويُحرَم العاملون من هذا الحق، مما جعله يقترح أن تتحول الشركات إلى جماعات محلية، يصبح العاملون (المعرفيون) أعضاء جوهريين فيها.
إن الأفراد يحملون على كاهلهم معظم عبء إنتاج المعرفة، وهم من يقومون فعليًا بتنفيذ مهام العمل المعرفي كما يتمثل في معالجة الوثائق والمستندات، واستكمال العمل الورقي، وإعداد الرسومات والمستندات، وتعبئة المنتجات المعرفية الداخلية والخارجية، وتوزيع العمل.
وإذا قام الفرد بذلك منفردًا، فإنه يمكن اعتباره الوحدة الأولى في إنتاج المعرفة.
أما الوحدة الثانية في إنتاج المعرفة، فهي مجتمع الأقران (أو النظراء) الذين يضفون الطابع الاجتماعي على العمل الذي يؤدونه، ويتعرفون على فجوات المعرفة، ويعملون معًا من أجل التعرف على الموارد اللازمة لسدّ الفجوات أو إيجاد هذه الموارد.
وهكذا، بينما يُنتج الأفراد ويعبئون معظم الموارد المعرفية، يُوجدون السوق والسياق المتصلين بذلك العمل، في مجتمع الأقران والأطراف الأخرى صاحبة المصلحة المهتمة بجودة ذلك العمل والمتأثرة به.
المنتج قبل المُنتَج:
ويترتب على فهمنا، أو قل تذكّرنا، أن إنشاء المعرفة، سواء من قبل الفرد (حيث تكون المعرفة الجديدة في رأس الفرد) أو من قبل الفريق (حيث تكون المعرفة الجديدة في رؤوس عدد محدود من الأفراد أو دائرتهم ككل)، ألا يغيب عنا أن المنتجات التي يصنعها البشر تبدأ، في الأصل، عملًا معرفيًا.
فقبل أن توجد المنتجات الجديدة، لا بد أن يسبقها وجود المعرفة الجديدة: التصور أو المفهوم أو الفكرة الأولى التي يتم العمل من أجل تصميمها وهندستها، ومن ثم إنتاجها وتسويقها.
وتطبيقًا لذلك، لم تعد المنتجات مهمة كأهمية الكفاءات والأفراد الذين ينتجونها.
فالاعتماد على المنتجات ينطوي على قدر كبير من المخاطرة، لأنها سرعان ما تتقادم، ويُستبدل بها الإبداعات الجديدة.
لذا تعرف المنظمات والشركات أن من الحكمة نقل التنافس من "كم" المنتجات إلى "كيف" الكفاءات المعرفية، ذوي القابلية لحل المشكلات والإبداع.
وهكذا، فإن مادة البناء الأساسية في بنيان المنشأة الحديثة هي المعرفة، وهي الشيء الوحيد الذي يعطي المنظمة أو المنشأة ميزة تنافسية، ولا تنتهي الحاجة إلى تحديد ما تعرفه، وكيف تستخدم ما تعرفه، وإلى أي مدى يمكنها أن تعرف آخر جديدًا، وبأسرع وقت.
اضافةتعليق
التعليقات