القلق أحد أكثر المشاعر التصاقاً بالإنسان، إذ يولد من رحم الخوف، ويتغذى على الهواجس، ويكبر في ظلّ المجهول. إنه الوجه الآخر لشغف الحياة، لأن من لا يقلق لا يهتم، ومن لا يهتم لا يعيش بحق. غير أن القلق حين يتضخم، يتحول من طاقة دافعة إلى عبء خانق، فينهك الجسد ويشلّ الروح. وعند هذه النقطة، يولد وهمٌ خطير اسمه "اللامبالاة"، حيث يظن البعض أنها الحل السحري لآلامهم، بينما هي في الحقيقة ثمرته المرة.
اللامبالاة ليست حرية، بل عجز متنكر. هي موت بطيء للرغبة، إذ يتوقف الإنسان عن الخوف لأنه توقف عن التمني. قد يظهر اللامبالي هادئاً، لكن ذلك الهدوء ليس سلاماً داخلياً، بل خواءً داخلياً. إنه مثل أرض بور لم تعد قادرة على إنبات شيء، أو كعزف صامت لآلة انقطعت أوتارها.
القلق في حدوده الطبيعية يشبه جرس الإنذار: يوقظك لتعيد النظر في قراراتك، يذكّرك بأن الحياة مسؤولية، وأن كل خيار يحمل وزناً. لكن حين يشتد ويتحول إلى خوف مستمر، فإنه يفتت التركيز، ويزيد الأرق، ويضعف المناعة، ويدفع صاحبه إلى دوامة من الإرهاق النفسي. ومع طول المعاناة، تنطفئ الروح، ويولد البلاء الأكبر: لا مبالاة تسلبك معنى كل شيء.
إن أخطر ما في اللامبالاة أنها توهمك بأنك شُفيت من القلق، بينما أنت في الحقيقة فقدت القدرة على الإحساس. كأنك أطفأت النار بقتل الحطب نفسه. نعم، لم تعد تشعر بالاحتراق، لكنك فقدت دفء الحياة أيضاً.
العلاج الحقيقي لا يكون بالانسحاب من المعركة، بل بتعلّم فنّ القتال. مواجهة القلق تحتاج إلى وعي وصبر. أول خطوة أن نواجهه بصدق: ما مصدره؟ أهو خوف من الفقد، أم من المستقبل، أم من الفشل؟ ثم نسأل: ما الذي يمكن تغييره وما الذي لا يمكن؟ فجزء كبير من القلق ينشأ حين نخلط بين ما نملك السيطرة عليه وما لا نملكه.
هنا يظهر العلاج العملي:
1. التنفس العميق والتأمل: استعادة الحاضر عبر لحظات صمت ووعي بالنفس.
2. تنظيم النوم والغذاء والحركة: لأن الجسد المتعب يضاعف من قلق الروح.
3. الكتابة والتعبير: فالقلق حين يُكتب يُفرغ من حدّته.
4. العلاج النفسي: حيث يساعد المختص على فهم جذور القلق وتفكيك أنماط التفكير السلبية.
5. الإيمان والروحانية: فهي تزرع في القلب يقيناً بأن هناك معنى وراء كل خوف، وأن الغيب ليس فراغاً مرعباً بل مجالاً للأمل.
القلق، مهما بدا مريراً، قد يكون معلماً عظيماً. إنه يقول لك إنك حي، إنك تهتم بشيء، إنك لم تستسلم بعد. أما اللامبالاة فهي الاستسلام ذاته، هي إعلان وفاة غير معلنة. لذلك، لا ينبغي أن نخلط بين الهدوء الحقيقي الذي يولده الوعي والنضج، وبين السكون الكاذب الذي تولده اللامبالاة.
إن المطلوب ليس أن نهرب من القلق، بل أن نعيد صياغته. أن نحوّل خوفنا إلى سؤال، وسؤالنا إلى بحث، وبحثنا إلى معنى. حينها فقط يصبح القلق جسراً إلى النضج، بدلاً من أن يكون سجناً للروح. أما من يختار اللامبالاة، فإنه لا يعالج نفسه، بل يختار أن يعيش بقايا حياة لا تحمل حرارة ولا رغبة.
فاللامبالاة ليست علاجاً، بل نهاية حزينة لقصة لم تُكتب فصولها الأخيرة كما يجب. والإنسان الذي يسعى إلى السلام الحق، عليه أن يحتضن قلقه بوعي، لا أن يدفنه في تربة اللامبالاة. لأن الدفن لا يُميت القلق وحده، بل يميت معه كل ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.
اضافةتعليق
التعليقات