قال تعالى:
﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمَانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (1)
في هذه الآية إشاراتٌ نفسيةٌ مهمّة، يمكن أن يميّز الإنسانُ بها: هل هو من أهل النفوس القوية، أم الهشّة؟
الإشارة الأولى:
﴿قالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾
القولُ، أي الكلام، وما له من تأثير على النفس، إلى درجةٍ يمكن أن تصل النفس الإنسانية للخوف من أذى الآخر، الموجَّه إليها لا الصادر منها بفعل. ولهذا يركّز القرآن الكريم كثيرًا في خطابه مع رسله المصطفين بشكل خاص، ومعنا بشكل عام، على أمر الصبر والتسبيح، في مواضع تقارب خمس آيات، كقوله تعالى:
﴿فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ (2).
اللطيف هنا أن الآية علّلت فعل الصبر والتسبيح بهدف الوصول إلى نفسٍ راضية، وليس لدفع ما يُقال. أي أن الإنسان معرّض لأن يسمع كل شيء، أو أي شيء، ومن أي أحد، مهما كان قربه أو بُعده.
الحاجز الوحيد لمنع التأثّر والتفاعل السلبي مع ما يُقال — إن لم يكن القول جميلاً ولا طيبًا — هو الارتباط بالله تعالى، والانشغال بذكره. ذلك الذي يجعل الإنسان راضيًا، متقبّلًا نفسيًا احتمالَ صدق هذا القول.
الإشارة الثانية:
﴿فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمَانًا﴾
لماذا لم تقل الآية: "فزادهم خشيةً من الله"؟
لعلّ وجه الجواب على هذا السؤال: أن مقياس تحقّق الخشية من الله تعالى هو تحقّق الإيمان. فإن كان الإيمان متحققًا، كانت الخشية حاصلة.
لذا، زيادة الإيمان هنا بعد قول الناس للمؤمنين أن يخشوا من اجتمعوا عليهم، إشارةٌ إلى زيادة اليقين القلبي فيهم؛ أن هذا القول إنما هو امتحانٌ لإيمان قلوبهم، كما جاء في الآيات اللاحقة في قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (3).
فإنِ استجابت النفوسُ لقولهم، سقط أصحابُها، وكان ذلك دليلًا على ضعف إيمانهم.
أما إذا لم تخف وتَهب هذا الجمع، فهذا دليل على أن قلوبهم صادقةٌ بإيمانها، بأن القوة لله تعالى، وأنه لا شيء جارٍ عليهم إلا بأمره وإرادته وتدبيره. وهذا النجاح هو الذي يزيد في إيمان قلب المؤمن ويثبّته.
ولهذا تعالى، في آيةٍ أخرى، يصف فريقًا من الناس بأنهم "يخشون الناس كخشية الله"، إشارةً إلى أن إيمانهم لم يكن بالمستوى الذي يستحقون به حتى خطاب ﴿الذين آمنوا﴾، فهم اعترضوا على أمر القتال، ولم يعترضوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
يعني: لديهم إيمانٌ وامتثالٌ لربهم، لكن ليس كاملًا، وذلك في قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ. قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ، وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (4).
الإشارة الثالثة:
﴿وَقالُوا حَسْبُنَا اللّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
في هذه الخاتمة من الآية نعرف مفتاحَ وصولهم إلى هذه القوة النفسية. فهو ليس مجرد قول، بل هو شيءٌ كانوا يُغذّون إيمانهم به، فكان أولَ ما نطق به لسانهم هو الاحتسابُ بالله تعالى، واستشعار كفاية وكالته.
وهذا ذاته قولُ رسله، الذين هم أعلى الناس إيمانًا، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ، وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا﴾ (5).
اضافةتعليق
التعليقات