إن اليقين ليس مجرّد انطباع قلبي أو فكرة عقلية؛ بل هو مقام وجودي تتداخل فيه المعرفة مع التجربة، ويصبح فيه العقل والروح شريكين في بناء الوعي. هو النقطة التي يلتقي عندها الإدراك بالمشاهدة، والفكر بالتزكية، فيغدو الإنسان أكثر انضباطًا في سلوكه، وأصفى في رؤيته للكون والحياة.
لقد ميّزت نصوص الحكمة والعرفان بين مراتب متعدّدة لليقين، تتباين بحسب ما يعيشه الإنسان من مشاهدات ومعارف. وكل مرتبة تكشف عن نمط خاص من السلوك النفسي والأخلاقي.
١- اليقين بالمراقبة الإلهية
من استقر في قلبه يقينٌ بأنّ الله مطّلع على ظاهره وباطنه، وعلى كل صغيرة وكبيرة في حياته، تحوّل إلى إنسان يعيش في حضرة دائمة، في مقام الامتثال والطاعة، فلا يجد نفسه إلا منصاعًا لأوامر الله، مبتعدًا عن نواهيه. هذا اليقين هو مدرسة للضبط الذاتي، إذ يجعل مراقبة النفس انبثاقًا عن مراقبة الله، لا عن رقابة الناس.
٢- اليقين بالنِّعَم والإحسان
ومن رسخ في وجدانه يقينٌ بجزالة النِّعَم الإلهية، الظاهرة والباطنة، غمره الخجل والحياء. هنا تتولّد الأخلاق من الاعتراف بالمنّة؛ فيغدو الشكر حالة وجودية لا مجرّد كلمة. هذه المرتبة تصنع إنسانًا يرى كلّ فضل لله فيمتنع عن الكبر ويستبدل الغفلة بالامتنان الدائم.
٣- اليقين بجزاء الآخرة
ومن أيقن بالجزاء الأخروي – بما وعد الله عباده الصالحين من نعيمٍ لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر – عاش في حالة من الرجاء الممزوجة بالعمل، فتستقيم حياته على ميزان الآخرة. هذا اليقين لا يكتفي بالتصديق الغيبي، بل يجعل الغيب معيارًا عمليًا ينظّم الحاضر.
٤- اليقين بحكمة التدبير الإلهي
المرتبة الأعمق هي إدراك أنّ كل ما يصدر في العالم إنما يصدر عن حكمة وعناية أزلية تعود إلى نظام الخير الأشمل. هنا يغدو الإنسان في مقام الصبر والتسليم والرضا، كالميت بين يدي الغسّال، لا اعتراض في قلبه ولا تردّد في نفسه. هذا ليس خمولاً بل تسليمٌ واعٍ ينشأ عن ثقة بالعقل الكلي المدبّر.
٥- اليقين بالموت
حين يترسّخ في النفس يقينٌ بالموت، يتحوّل من كونه حادثة مستقبلية إلى حضور دائم يذكّر بالغاية. يرى الإنسان صحيفة أعماله فيتساءل: بماذا سألقى الله؟ فيحزن، ويحاسب نفسه، ويصلح عمله. هذا اليقين يطهّر النفس من الغرور ويضعها على طريق التوبة المستمرة.
٦- اليقين بفناء الدنيا وخساستها
ومن تأمّل في مصير الدنيا وتقلباتها وأحوال أهلها، أدرك أنّها دار ممرّ لا دار مقرّ. لا يركن إليها ولا يغترّ بزخارفها، بل يعدّ نفسه للقبر والبرزخ والآخرة. وهنا يستحضر المؤمن قول الإمام الصادق عليه السلام:
"عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبتُ لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبتُ لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها."
هذا اليقين هو بداية الحرية من أسر الشهوات والعلائق الزائلة.
٧- اليقين بعظمة الله وقهره
الذروة هي يقين العظمة الإلهية؛ حيث تتلاشى الأنا أمام الجلال المطلق. عند هذه الدرجة يعيش الإنسان حالة الهيبة والدهشة، والخشوع والخضوع، فيرتعد قلبه كما ارتعدت قلوب الأنبياء والأولياء. كان رسول الله ﷺ، من شدّة خضوعه وخشيته، يكاد يسقط وهو يمشي، فإذا وقف للصلاة غاب عن الدنيا كلّها لأنه يعلم أمام من يقف. هذا مقام لا يناله إلا من اصطفاه الله ببعض كراماته، وهو تاج المقامات.
اليقين جسر بين العقل والروح
كلّ هذه المراتب ليست عواطف عابرة ولا نظريات معلّقة في الذهن، بل هي مقامات تترجم إلى سلوك وأخلاق. فاليقين بالمراقبة يُنتج الطاعة، واليقين بالنعم يُنتج الشكر، واليقين بالآخرة يُنتج العمل، واليقين بالموت يُنتج التوبة، واليقين بفناء الدنيا يُنتج الزهد، واليقين بعظمة الله يُنتج الخشوع والخضوع.
في هذا المعنى يصبح اليقين حركة مزدوجة: تحليل عقليّ يعمّق الفهم، وتجربة روحية تفتح القلب. وحين تتحد المعرفة بالتزكية، يصل الإنسان إلى المقام الذي أشار إليه النبي الأكرم ﷺ بقوله: "لي مع الله حالات لا يسعها نبيّ مرسل، ولا ملك مقرّب، ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان."
إنّ اليقين، إذن، ليس مجرّد تصديق؛ بل هو تحوّل شامل للإنسان في فكره وسلوكه ووجدانه، حتى يغدو الكون كلّه انعكاسًا لحضور الله في قلبه.
اضافةتعليق
التعليقات