سمعت رجلاً يندب حظه قائلاً: تشتهي أكل البطيخ فتختار ما هو كبير حجمه، تدفع ثمنه، وتتكبد عناء حمله على ما به من ثقل مع كثير منى في نفسك، وثم ينتهي بك المطاف كي ترى أنك لم تحظى منها إلا بظاهرها، وأما المذاق فلا شيء!.
مضت فترة ليست بقصيرة، وأنا أحاول مراراً وتكراراً التفكير بمثال أو فكرة أو صورة تصيب الهدف تماماً، بين ظاهر الأمر اللامع وبريقه الشديد الذي لا يتوافق مع باطنه.
إذ أنك من الممكن في بعض محطات حياتك أن تنجذب لهذا اللمعان فتنبهر ويسحر نفسك ويأسرها، في المقابل إن كثير من الأشخاص وليس هم بقليل من لا يكتفي بأن يرى هذا اللمعان بين الحين والآخر، بل أراد أن يشير لنفسه بالبنان على قدرته وسطوته في الاتيان بما هو أفضل في المقام، ظناً منه أن اللازم هو ظاهر البريق فقط.
أما العلة التي جعلتني أعطي الأمر هذا الحجم من الأهمية فهذا لأن المجالات التي حدث فيها هذا السيل كثيرة على الرغم من تكفل أهل الاختصاص بالبيان والارشاد والتوجيه، إلا أن العجلة والحماسة من دون تثبت تُغيب عن الأذهان ذاك الباطن الذي قد تتزاحم به أمور كثيرة يتم اسقاطها تباعاً فتهوى، ولا يكون حينها الخوض في هذا الأمر إلا هباءً كخليط لا يمكن لمكوناته أن تكون متجانسة البتة، وذلك بدءاً من الأفكار التي تحدث وتستحدث متزامنة مع سرعة الأحداث آملة بالمواكبة التي لا تتوقف وتتسع لتدخل حيز التطبيق فلا يكون بعضها إلا هاوية تجرف صاحبها.
في هذه الأسطر لسنا ندعو إلى الجمود والرتابة، أو حظر التجديد، بل نرجو أن يعطى الفكر السليم والإبداع وزنه دون تطفيف، ألا يضيع العمق بتأمل السطح، وألا يطلق العنان على نحو من عبث وأخص في مقالي هذا أولاً:
مجالات الكتابة بشتى أنواعها من فنون النثر والمسرح والشعر، فلا تطغى شرارة عنوانها (لم يسبق بها أحد من العالمين)؛ على مصداقية المضامين وصحتها وترابطها، وألا تكون قناعات أحدنا وحي مرسل على نحو إطلاق غير متناسب وإن اكتسى الحرف بحلية جمالية.
ويماثله أن يميل البعض في الكتابة إلى التوعية في مجالات شتى من دون أن يكون له أدنى مكتسبات علمية وازنة فيتطرف في الوعظ والتنبيه، حيث يدرك الواعي المتريث المتأمل صعوبة تقييم الموضوع أو أولويته أو الفئة المستهدفة على من زعم الدراية والاحاطة فيما كتب.
ومن ثم يمتد بي طرف الحديث إلى تدوين العلوم بين دفتي كتاب وما يتم تناقله من أفكار ومنطلقات متناقضة ناقصة مستعصية الوقوع في العديد من المعارف والعلوم التجريبي والانساني منها.
ولا يخرج من هذه الدائرة الساحة التعليمية والتوعوية وما اختلط منها بنصح وترفيه، أو تعليم وتوضيح كقلم ينساب بسطور مشهد تمثيلي رسالته تتضارب مع تفاصيله فتنقل قيماً خاطئة مع دعوى المعالجة من الجذور؛ فتقع في محذورات نتيجة اللامبالاة باختلاف الأعمار وسعة الفهم وملائمته للعقيدة والمجتمع وخصوصية بعض المطالب وحساسية البعض الآخر منها فتمكث في ذهن المتلقي على حصر الواقع في حدود مشهد ما، مورثة لاضطرابات سلوكية ونفسية على المدى البعيد، معينة على كثير من الفوضى الفكرية، وافرة الخلط والغلط في المعنى واللفظ.
من هنا لا يخفى شدة خطرها إذا كانت متعلقة بصحة الناس وحياتهم، أو عقيدتهم، أو مهددة لأمان المجتمعات وضوابطها.
ولعل شديد الحسرة والغصة أن البعض على نحو تصريح وتلميح يرى بأن الإرشادات والتنبيهات من أهل الاختصاص ما هي إلا محض حواجز تقيد الإبداع التنافسي وتحبس طاقاتهم يضعونها خشية من أن يتم تجاوزهم فيسرهم بذلك خرقها، وماهذه إلا تكتلات ضبابية لا يتوهمها غير من دخل في مجال ما دون تأسيس أو تأصيل صحيح.
علينا أن نتيقن من أن الوهم والتسرع والظن في تقييم الأمور من كونها حاجة انسانية على سبيل المثال أو أنها تدفع عنه ما هو سلبي بإدراك قاصر لن تكون يوماً ما لوحدها أرضية الإبداع والتطور.
وقد أعرضت في هذا المقال عن ذكر الكثير من الأمثلة التي أقصدها بعينها، لكونها بالغة الحساسية والتخصص.
ويبقى الرجاء في قرار تقديم سلامة الفرد وترابط المجتمعات على الانجرار إلى مسببات فضائها مجهولا فتمهد إلى الانحراف والفساد والضياع.
أن يكون النص سهل التناول والفهم والتداول خير من زخارف تصرف النظر عن الحق.
أن لا يقبل المتطوع غير المتخصص الفسحة لنفسه في عمل ما لا يحسنه، أفضل من الخوض في ما يسيء لما ينتسب إليه.
العودة إلى مختص يضع يده على موطن الحاجة مصيباً خير من عجلة نجانب فيها الصواب.
أن نصدق في الاعتزاز بقيمة العلم وماهيته، يوجب عدم نقض الأمانة العلمية والميل عنها.
وإن كنا نرى أن الأفكار العظيمة تستحق أن تكون بذوراً لنجني ثمارها، فهذا يعني اختيار التريث رفيقاً لنا وأن نسابق عجلة الزمن بحبل نجاة من وعي.
هذا إن كنا نريد صدقا أن نكون شركاء في الاحتفاء بإنجاز ملهم يرتفع صداه ويخلد أثره.
نسأل الله تعالى في أن ألا نكون ممن أضل أو يضل، وأن يجعل لنا نصيبا من الإخلاص وايثار المجتمع ونكون ممن حمل همه وممن وقاه بنفسه وقلمه.
اضافةتعليق
التعليقات