في إحدى الأيام بدت السماء وكأنها حديثة الولادة من شدة زرقتها وصفاء منظرها لتحتضن الشمس بشدة نصوعها فتشرق بإبتسامة لتنشر ضياءها على مشارف الأرض وتمنحهم فائدتها.
فجمال ذلك اليوم قد جعل اللطف يعم الأماكن والأنس قد أخذ نصيبه من الناس.. بينما العالم كان مسحوراً بالجمال وفي أحد القصور المطلة على مشارف المدينة هناك ولدت طفلة صغيرة في قصر، أسماها والدها "رسال" ومعنى اسمها التمهل والانتظار..
ترعرعت رسال في أحضان الترف والدلال لتشب على عرش الرفاه متنعمة بكل ما أنعم الله به على البشر.. اُغدقت بالعاطفة والحنان والهدايا، والدها لم يدعها تحتج لكائن مطلقاً، مرت السنين والأيام وقد بلغت رسال ريعان الشباب ولم تكن تعي أن هناك أمراً يصعب حله في هذه الدنيا، حتى حل بها أمر قد رأته يعجز عن التصديق وأن ترفها برمته لا يمكنه أن يفعل شيئاً..
ظلت في حيرة من أمرها، لم تستطع أن تفعل سوى الانتظار والصبر، هناك مر على أسماعها صوت الآذان وكانت الشمس قد أهدت ضياءها للقمر لتسلمه مفاتيح البزوغ واعلان هيمنته في دياجي الظلام، وقد أكمل المؤذن التكبير والشهادة بوحدانية الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم شهد بأن علياً ولي الله. وكأنه جرس تنبيه في ظل الضياع لكنها لم تكن على استعداد تام لاستقباله، التفتت إلى نافذتها شعرت بإحتياجها إلى ذلك الأمان الراوي لظمئها الايماني..
ثم بعد لحظات تنهدت وعادت للتفكير في مصيبتها، أكل الوقت تأملاتها، شعرت بالارهاق، خلدت إلى النوم، مرت ساعات وهي غارقة في نومها حتى قطع ذلك الكابوس نومها الذي جعلها تستيقظ على صوت آذان الفجر، التقطت أنفاسها روت ثغرها المتيبس من شدة الرعب والارهاق برشفة ماء، أنارت مصباح غرفتها شرعت عّن أبواب نافذتها فإذا بالمؤذن قد وصل بالآذان "حي على الصلاة".. ثم كررها، شعرت بنسمة قد داعبت صحراء مشاعرها الوعرة، أحست بقربها من نهر يروي ذلك الظمأ في فؤادها..
نظرت إلى نفسها، تمعنت بمعالم وجهها، أخذها التفكير إلى كلام لم تكن بحاجة للاحساس به، تجولت بين أروقة ذاكرتها لتتذكر كيفية أداء الصلاة، خطر لها قول تلك المدرسة في أيام الثانوية أخبرتهم أنها سهلة جدا فقط أن تأتيها بقلب سليم قد عرف من أوجده اليوم، ليقف بين يديه ويشكره على نعمة خلقه..
ذهبت لمكان الوضوء، ثم افترشت سجادتها أخذت تخفي زينتها بحجاب أحبت نفسها فيه، وقفت تؤدي صلاتها، وهي ترتل الآيات شعرت برغبة بالبكاء لتستنهض تلك المشاعر التي سكنتها العتمة قبل أن تنيرها رحمة الخالق..
استشرت الطمأنينة أركان روحها، شعرت بقربها من الله، زادها الأمر سعادة وكأن تلك الركعتان قد ضمدت جرحاً لا تفقه سببه لغرقها في الفراغ الروحي، نظرت إلى السماء رددت: يا رب السِعة والإتساع ضعني حيثُ أنتمي، إلهي!.
أنا التي صنعت هذا الخَراب، أشكوه إليك لأني أعلم أنك ترحم من ناداك وأنت قريب لمن ناجاك، استرسلت دموعها بالهطول على وجنتيها وكأنها أرض عطشت فرحمت بقطرات الغيث لترتوي، بعد اتمامها الصلاة رغبت أن تقرأ القرآن أيضاً لتنير حروفه دروب أيامها الموحشة بقربه ولتقوي هشاشة روحها بذكر الله تعالى.
أخذت القرآن، قبلته، وضعته على جبينها، فتحته بكل حب وكأنها تنتظر رسالتها بين السطور فقرأت بين الآيات هذه الآية: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
تزاحمت قطرات الدموع من عينيها وكأنها قد تسلمت رسالة واضحة وصريحة جداً، فابتسمت ثم عادت تكمل الآيات حتى انتهت، شعرت برغبة في النوم مرة أخرى، خلدت إلى النوم، تشعر بخفة كأنها طير قد رمى كل ما يثقله ليعود مطمئناً إلى موطنه، مرت ساعات حتى رن المنبه ليخبرها بموعد الدوام، الآن نهضت بكل نشاط وراحة أخذت تستعد للخروج وبينما هي في الطريق وقع نظرها على لوحة تحمل الآية الكريمة نفسها:
"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
هنا وقفت تأملتها ثم بدأت تعلوها ملامح الارباك، ترى ما الحكمة من ذلك كيف هذه الآية أن تتكرر؟!
انتظرت حتى تصل إلى مكان عملها، هناك رجل كبير في السن قد تشبعت تجاعيده بالقيم وأخلاقه الفاضلة تجسيد لصفات آل البيت "عليهم السلام" حتى صار مثالاً وقدوة في مكان عمله..
ذهبت إليه بعد أن سلمت عليه وسألته عن أحواله، سردت له قصتها، أخذ يردد: الحمد لله وشعر بالفرح حتى انتابها الفضول لمعرفة سبب فرحه، قالت: ياعم ما القصة التي جعلتك تبدو بهذا الفرح الغامر. قال لها: هنيئاً لكِ حب الله والمولى علي "عليه السلام" أجابت: وكيف ذلك؟
قال لها: أنتِ لا تدركين كمية اللطف المحاطة بك، لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه ليقربه إليه، وأنتِ قد ابتلاك الله ليجعلك ذاكرةً له في أيام مباركات، علت ثغرها ابتسامة وهي تستمع لحديثه، وأخبرها أن هذه الأيام هي أيام عيد الولاية.
وأردف: الآية التي صادفتك لم تظهر أمامك اعتباطاً بل لتذكيرك أن الامام علي ارسل لاكمال الدين وقد اكتمل دينك لدعوتك إلى ساحة الايمان في هذه الأيام وتحت ظله "عليه السلام"..
لأن يوم غدير خم عظيم جداً وهو من أهم الأعياد وذكره النبي في خطبته المعروفة في هذا اليوم، وكان النور ينتشر في أرجاء المكان وقد ذكر النبي "أنه أفضل أعياد أمتي" وفيه من الأجر والفضل لكل امرئٍ سواء لاحيائه أو اظهار معالم عظمته للناس والأهل ما يعجز عن وصفه اللسان، فعظمته تجعلك تغرق في بحر حب مولاك، وأخذ يذكر فضله وأقوال الأئمة عليهم السلام، فعن الامام الرضا "عليه السلام": (من أطعم مؤمناً كان كمن أطعم جميع الأنبياء والصديقين). لأنه يوم اتمام الدين واتمام النعمة علينا بتنصيب الحق علي "عليه السلام".
استبشرت بحديثه، شكرته وتبادلت التهنئة معه، وبعد انتهاء ساعات العمل ذهبت إلى محل الحلوى لتدخل على أهلها ناشرة معالم الفرح والسرور، ثم أخذت تزين البيت وتنشر الفرحة بين أرجاء المنزل.
وبعد انقضاء هذا اليوم المليء بموائد الايمان والرحمة، أخبروها بأن ما كان يشغل بالها قد تيسر أمره وانقضت حاجتها، فرحت وسجدت شاكرة لله، بعد هذا الأمر أدركت نفسها الضائعة بمعالم الترف الفارغ..
اللهم اجعلنا من المتمسكين بولاية وليك أمير المؤمنين "عليه السلام".
اضافةتعليق
التعليقات