الضمير جنة الإنسان وسجنه. فخطأ العقل في اختيارٍ ما مثلاً قد يجر العقل إلى إصلاح الخطأ وتجاوزه نحو فعل آخر وقرار آخر. ولكن أن يصلح العقل خطأ قرار ما ويغيِّره بموقف جديد جميل وموفَّق لا يعني أن المسألة قد انتهت، وإنما يعني أن المسألة قد بدأت وقتها، لأن قوة الضمير ستحمّل نفسها مسؤولية القرار الخطأ حتى وإن أصلحناه وغيرناه.
وهي مسؤولية واقعية وفعلية ستبقى آثارها في النفس وفي الآخرين، لأن البشر سيلتقطون هذه الأفعال ويمارسونها رغم تراجع العقل عن قراره وإصلاحه لخطئه.
إنّ ما يعانيه العالم اليوم من تدهور في الأخلاق وانكباب على الرذائل وانتشار الإجرام هو بسبب غفلة الإنسان عن خالقه وعن استحضار عظمته التي تجعل في القلب رهبة تحول بينه وبين الميل إلى الشر. فخشية الله من الدعائم التي قامت عليها الحياة الروحية لأنّها تسمو بالإنسان إلى كلّ خير، لذلك جاءت الأديان تسعى لغرس هذه النزعة في نفوس الأفراد مبنية ما يؤدي إليه غضب الله من العقاب الدنيوي والأخروي. ولولا خشية الله لاسترسل الإنسان في شروره، وانكب على شهواته، غير مقيم لمصلحة الغير أي اعتبار، ولما نفعت في ذلك كلّ القوانين التي شرعت للمحافظة على الإنسان من عدوان الغير، وهذا ما يعاني منه عالمنا الحاضر. والإسلام بجانب ما شرعه من العقوبات والزواجر التي تردع الإنسان عن اقتراف الشر لم يهمل تذكيره بخشية الله والخوف من عقابه لأنّ ذلك أدعى إلى طاعته سبحانه وتعالى وسلوك الطريق المؤدي إلى رضائه والفوز بنعيمه، والآيات القرآنية الآتية شاهدة على ذلك: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النّور/ 52). (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (الملك/ 12). (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البيّنة/ 8). وخشية الله تهب الشجاعة الأدبية للإنسان وهي من محاسن الصفات التي يتحلى بها وقوامها: أن يبدي الإنسان رأيه وما يعتقد أنّه الحقّ مهما ظن الناس به أو تقولوا عليه، ولو جر عليه غضب الحاكم، ويرفض العمل بما لا يراه صواباً ولو لم يقع رفضه موقعاً حسناً عند الناس، والله سبحانه يرشد المؤمنين إلى التحلي بهذه الصفة بقوله: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 175). (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة/ 13). ويذكر الله صفات المؤمنين بقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة/ 54). والتاريخ مملوء بسير الأبطال الذين ضحوا بكلّ نفيس في سبيل قول الحقّ ونصرته، وصبروا على الآلام حباً للحقّ لأنّهم أحبوه أكثر مما أحبوا أنفسهم ومنهم الأنبياء ونوابغ العلماء، ولهذا نرى القرآن يتحدث عن الأنبياء: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب/ 39). والقرآن يقرن خشية الله بالرجاء "لأنّ المذنب الذي لا يرجو ربه في قبول المتاب ينقلب إلى قوة يائسة خطرة لا يرجى لها صلاح ولا ينتظر منها نفع، وانقطاع الصلة بين المرء وربّه هو أقصى غايات الفساد.
وتخويف المرء من ربّه له حدود ولا ينبغي أن يصل الخوف إلى اليأس، فإنّ التربية التي تقوم على الخوف المطلق تربية فاسدة لأنّها تطمس أصول النور في القلب وتمنع عناصر الخير من النهوض..
ففي كلّ إنسان عواطف وميول للعمل الصالح تشجعها المكافأة الحسنة والوعد الصادق بنيل فضل الله. ومما جاء في القرآن في هذا الصدد قوله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56). ووصف الله المؤمنين الصادقين: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) (السجدة/ 16). ووصف الله بعض أنبيائه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/ 90). إنّ خشية الله المقرونة بالرجاء لهي أقوى المؤثرات في أعمال الإنسان فهي التي تربي الضمير الإنساني وتجعله فرداً صالحاً في المجموعة الإنسانية.
الضمير هو ما يصنع إنسانية الإنسان
إن الضمير بما هو قوة مضمرة حسب الفيلسوف الفرنسي روسو، تنبع من أعمق أعمال الإنسان لأنها قوة خفية تسكنه وتوجِّه حياته. هذا الصوت الذي يعلو على صوت العقل لكونه غريزة تعبِّر عن جوهر الإنسان الطبيعي.
فمهما كان الإنسان عاقلاً ناجحاً، يبقى صوت الطبيعة الداخلية فيه، أي ضميره الخفي، أقوى فاعلية في حياته. لأن الضمير عند روسو لا يعير اهتمامه بجبروت العقل وحججه وبراهينه، بل إن للقلب من الحجج أيضاً ما لا يمكن للعقل أن يراها.
والضمير الإنساني يجسّم ماهية الإنسان وجوهره، وليس العقل الذي يجعلنا عرضة للخطأ. ونتيجة هذا، فإن على الإنسان مسؤولية جسيمة، تجتمع فيها طبيعته وأفعاله. والضمير هو المعيار الحقيقي لإنسانية الإنسان، أي فعله الذي لا يقوم به أحد سواه. وبما أن الإنسان خيّر بطبعه، فإن الضمير لا يكذب أبداً ولا يتغيّر أيضاً، ولهذا السبب يمنحه كلّ المصداقية التي تعصمه عن كلّ شك أو خطأ. وبما أن الأمر بهذه الصورة، فهو مبعث طمأنينة وثقة. إن كلّ ما أحسّه خيراً فهو خير. وكلّ ما أحسّه شرَّاً فهو شرّ، وخير الفقهاء إطلاقاً هو الضمير وبهذا، يكون الضمير، أي صوت الطبيعة الخيِّرة، هو ما يعصمنا من الخطأ ويحمي حرية تصرفنا ومعاملاتنا.
صلاحية الضمير... هل انتهت؟
لحسن الحظ، فإن أكثرية الناس الساحقة هم من أصحاب الضمائر الحية. وهي نعمة كبرى من نعم الخالق على البشر. والأقلية القليلة تمثل أصحاب الضمائر الميتة. وعربياً فإن صاحب الضمير هو الإنسان الصادق الأمين المؤمن العطوف البار الصالح الذي يرفض كل ما اصطلحنا على تسميته بالفساد والكفر والجريمة وما يدور في دوائرها. ولكلمة الضمير مرادف آخر في اللغة العربية هو «الوجدان». وقرأت أن علماء جامعة «هارفارد» الأميركية توصلوا إلى نظرية مفادها أن تكون حي الضمير، أو تعمل بما يمليه الضمير أكثر فأكثر، قد يمثل فرصتك لصحة أفضل وحياة أطول. ومع ذلك أمامنا أمثلة كثيرة عن أصحاب ضمائر ميتة لا يزورهم الموت إلا في أرذل العمر.
وهناك كثير من النظريات التي تدور حول أنماط الشخصية التي تتأثر طبعاً بالطبيعة من حولنا والجمال والقبح والمناخ والمجتمع والتراث والوراثة والثقافة. وتُصنِف أبرز تلك النظريات أنواع الشخصية في خمس مجموعات؛ هي: نمط شخصية القبول ونمط الشخصية حيّة الضمير (يقِظة الضمير) والشخصية الانبساطية والشخصية العصابية والشخصية الانفتاحية. وهذا المقال ليس درساً في النظريات العلمية، فأنا لا أزعم أنني خبير في السلوك البشري وأستطيع قراءة الضمائر، ولذلك أتعكز على العلماء الذين يقولون إن الشخصية تنشأ في الطفولة ويستمر نموها في مرحلة المراهقة.
ومع هذا فإن الشخصية ليست قالباً من الحجر، إذ إن ظروفاً معينة تؤدي إلى ظهور سمات مختلفة في شخصية الفرد. كما أن الشخصية تتغير مع تقدم العمر. وأظهرت الدراسات أن الانفتاح يبلغ ذروته في مرحلة الشباب، بينما يصبح أكثر الناس من ذوي الضمائر الحية بعد تقدمهم في العمر وإعلانهم التوبة عما مضى.
ويؤكد العلماء أن نمط الشخصية الذي يترابط أكثر من غيره من الأنماط الأخرى مع التمتع بصحة جيدة هو نمط «الشخصية حيّة الضمير». ووجَدَت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين تم تقييمهم في عمر ثماني سنوات من قبل آبائهم ومدرسيهم هم من ذوي الضمائر الحية ويكونون في العادة مستقبلاً من الأشخاص الأطول عمراً. وأستدرك لأقول إن هذا لا يعني أن كل كبار السن ذوو ضمائر حية، فبعض هؤلاء يتزوج بنات في عمر حفيداته! وسمعت أحدهم يقول ساخطاً: لقد انتهت صلاحية الضمير في هذا العصر المعقد!
وقد يكمن التفسير البديهي للارتباط بين الأشخاص من ذوي الضمير الحي وصحتهم الأفضل، في وجود عادات صحية سليمة لديهم. وقادت بعض الدراسات إلى مثل هذا الاستنتاج، إذ ظهر أن الأشخاص من ذوي الضمائر الحية يميلون إلى الالتزام بالعادات الصحية في الطعام والنوم والعمل. ويمكن أن يدمر التوتر الصحة، وبمقدور الشخصية ذات الضمير الحي أن تتفادى الوقوع فيه، بينما تنجذب الشخصية العصابية نحوه. كما أن الشخصية ذات الضمير الحي قد تكون ناجحة في بلورة خياراتها المهنية وصداقاتها واستقرار الزواج وكثير من جوانب الحياة الأخرى التي تؤثر في الصحة والعمر.
ومع احترامنا للمراكز البحثية العالمية ولعلماء جامعة هارفارد التي تحتل قمة الجامعات الرصينة في العالم، فإن الموضوع يثير تساؤلات كثيرة من بينها: هل أدى ازدياد الأمراض إلى زيادة في أعداد أصحاب الضمائر الميتة؟ وهناك من يتساءل: كيف انقلبت هذه النظرية في العالم العربي وصار أصحاب الضمائر الحية هم المصابين بالكآبة والضغط والسكري والقلب، بينما أصحاب الضمائر الميتة في صحة جيدة ويسومون الناس سوء العذاب في مهن تتصل بحياة الناس مثل بعض التجار والمقاولين والمصلحين والسباكين والكهربائيين وكثير من السياسيين؟
والآن، ما هو الضمير؟ يقول الروائي الفرنسي فيكتور هوغو: «الضمير هو حضور الله في الإنسان، ويقظة الضمير من سباته هي عظمة في الروح ومجد وخلود، وأنا لا أطلب إلا عفواً واحداً هو عفو ضميري عني». ويتفق آخرون على أن الضمير هو قدرة الإنسان على التمييز بين الخطأ والصواب، بين الباطل والحق، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة والنزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم. مع التأكيد على أن الضمير ليس صفة وراثية في الطبيعة، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع وظروف حياته وتربيته.
اضافةتعليق
التعليقات