عدم استقامة العائلة عبارة عن عدم سلامة وأمن البيت الذي يربى فيه الأولاد، إما بالكبت، أو بالتنازع، أو بالمزيد من العطف، فإن كل ذلك يوجب عدم استقامة النفس مما ينتهي بالآخرة إلى الانحرافات الروحية، قالوا: ولذا نجد كثرة الانحرافات النفسية عند الأيرلنديين لتشديد الأمهات في تربية أولادهم، وعند اليهود لتكثير الأمهات من العطف، واللطف بأولادهم، وعند الإيطاليين لتشديد الآباء على الأولاد، وعند جماعة من الأمريكيين لكثرة المنازعات بين الأخوة والأخوات.
وفي كثير من البلاد الغربية يقع الأولاد أوائل بلوغهم بين تناقض متطلبات العائلة منهم، مثلاً: من ناحية يريد الأبوان من البالغين الاستقلال في إدارة أمورهم الاقتصادية وغيرها، بل وحتى الجنسية، ومن ناحية أخرى يربطون الأولاد بالبيت وبالطاعة للأبوين والكبراء، ومن الطبيعي أن يقع التناقض بين الاستقلال واللا استقلال.
وكذلك الحال يكون مع الأولاد الذين يريد الآباء منهم الطاعة، ولا يقومون بكل حوائجهم ولو عدم تزويجهم، وبذلك يحدث الانفصام والعقد النفسية، فاللازم إما إعطاء الحاجة ـ ولو النواقص منها ـ في قبال الطاعة وإما ترك الأولاد ليقوموا بحوائج أنفسهم باستقلال من غير تطلب الطاعة منهم.
فالطاعة لا تكون إلا في قبال إعطاء الحاجة، فإذا اختل الميزان اختلت الصحة النفسية بما أوجب الانحراف، وهذه هي حالة الحكومات في قبال الشعوب، فاللازم إما إعطاء حاجاتهم في قبال تطلب الطاعة منهم، وإما تركهم وشأنهم لتحصيل حاجاتهم بأنفسهم بدون تطلب الطاعة، وإنما يكون شأن الحكومة حينئذ شأن المراقب لئلا يطغى بعضهم على بعض.
وفي بعض الأمم يتجلى التضاد في العائلة بمظاهر أخرى مثلاً: الأب يريد المجازاة للمسيء من الأولاد، لكن الأم تمنع ذلك، فيقع الطفل بين هذين النقيضين، أو يريد الأب إنهاء الدراسة للأولاد ليساعدوه في عمله ومزرعته، وتريد الأم عكس ذلك، أو تريد الأم زواج البنت، ويريد الأب عدم زواجها لأجل خدمة البيت، أو غير ذلك.
ولون آخر من ألوان التضاد، تسييب الأولاد في الدار، وإرادة الانضباط منهم لدى الذهاب إلى السفر، أو إلى الضيافة؛ أو عند حلول الضيف لديهم.
والحاصل: أنه كلما يوجب الازدواجية يوجب انفصام الشخصية مما ينجر بالآخرة إلى الأمراض والعقد النفسية… وحيث أن النفس والجسم يتبادلان المرض، ولذا قيل: (العقل الصحيح في الجسم الصحيح) فإذا مرضت النفس وتعقدت أوجبت بالإضافة إلى انحراف خط سير الحياة للمريض ولمن يرتبط به، تأثير المرض النفسي إلى جسمه.
ولذا اعتاد علماء الطب [النفسي الجسمي] فحص صور المرض الجسمي في النفس، فإن لم يوجد هناك مرض، استوجده في الأعضاء، والأجهزة البدنية.
أما دور الحرمان فهو كبير في خلق الانحراف، فإنه يؤثر في الانحراف من جهتين:
(الأولى) أن الحرمان يؤثر على الجسم نقصاً في جهاز من الأجهزة، سواء كان بسبب سوء التغذية، أو بسبب عدم الوقاية من الحر والبرد، أو بسبب عدم وسائل الصحة في الماء والهواء، أو بسبب عدم الدواء… فيؤثر الاختلال الجسمي في الاختلال النفسي ـ كما تقدم وجهه.
ولذا نرى في البلاد ذات الاختلاف الطبقي تبتلي الطبقة الفقيرة بأمراض النفس مما لا يوجد مثل ذلك في الطبقة الغنية، ويعرف ذلك جلياً في الأحياء السكنية الفقيرة والغنية.
فالحياء السكنية الفقيرة، كما تكثر فيها الأمراض والأسقام الجسمية، كذلك تكثر فيها الأمراض النفسية والانحرافات الروحية، بخلاف الأحياء السكنية الغنية، وإذا ارتاد الإنسان المستشفيات، والمصحات العقلية، ودور المجانين يجد أن نسبة من فيها من الفقراء أكثر بكثير من نسبة من فيها من الأغنياء .
ومن أجل ذلك يكون المبتلى بالانحراف النفسي أكثر بكثير، في العوانس والأرامل، والأيتام والنساء اللاتي طلقن، والرجال الذين طلقوا زوجاتهم، من غير هؤلاء، كالنساء والرجال ذي الأزواج، والذين لم يصلوا مبلغ الزواج من الصنفين، والأولاد الذين لم يصابوا بفقد أحد الأبوين.
أما تناقضات الاجتماع، فهي الأخرى توجب الانحراف، حيث يقع الفرد بين جهتين متضادتين، ويسبب ذلك انفصام شخصيته واختلالاً في داخله يجره إلى الانحراف، مثل ما إذا وقع الاجتماع بين كماشتي الثقافة القديمة، والثقافة الجديدة، أو وقع الفرد بين التضاد الثقافي، لأن ثقافته الاجتماعية توجب شيئاً، وثقافته الحزبية أو ما أشبه توجب شيئاً آخر، وكما إذا أمره دينه بشيء واجتماعه بشيء آخر.
ولذا نجد الانحراف في البلاد الإسلامية بكثرة بعد أن غزتها الثقافات الدخيلة ونرى من يفرط في شرب الخمر بما لا يفعل مثله زميله في بلاد المستعمر، إلى جانب من يفرط في التطهير إلى حد الوسوسة، بما لم يأمر به الإسلام، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقد نعى جماعة من علماء الأخلاق في الغرب، تحطم الاجتماع الغربي من جهة التناقضات السائدة في تلك البلاد، لأن الاجتماع يدعوا الفرد من ناحية إلى حب الإنسان وخدمته ومراعاة حقوقه، ومن ناحية إلى حب الشهرة وجمع المال وتطلب المزيد من الربح، وكذلك يدعوه تارة إلى الرؤية المستقبلية والوعي والرشد الفكري، وتارة إلى حقائق مقبولة بواسطة الدعايات الملتوية في الإذاعات والصحف وغيرها، وهكذا يزيد تارة من حاجاته الاقتصادية بسبب المنتجات الاقتصادية الجديدة ذات الجمال والبريق، ثم لا يهيء له الوسائل الكافية، والإمكانات لاحتواء تلك الحاجات، وكذلك في أمر الإسلام والحرب والاستعمار والتحرر، بينما السلام هو ظاهر دعاياتهم والتحرر هو مدعاهم، يعملون ليل نهار للحرب، وللاستعمار الأكثر فالأكثر.
اضافةتعليق
التعليقات