نظرتْ إلى الاسم الظاهر في الشاشة ثم رفعتْ نظرها إلى زوجِها كأنّها تطلب الإذن منه، فتزحزح مبتعدًا بعد أن أعطاها نظرة الموافقة، أجابتْ بهدوء:
- أهلًا فرات
وصلتها التهاني منه، ابتسمتْ بجفاء قائلة: (الفال لكم إن شاء الله)!
ثمّ أغلقتْ الهاتف بعد أن ودّعته، جاءها صوتُ زوجها زيد معاتبًا:
- ألم تؤلميه بهذه الكلمة؟
الألم كلمة استطاعتْ أن تشعر بتناقضاتها، بسعير نار الوجع مع برودة الوحدة، المقاومة للعيش مع التسليم للموت، اختفاء الألوان مع صمود الأسود، سحبتْ لحافها لتغطّي رأسها ثم ردّدتْ بهدوء:
- لم أقصد.
سمعتْ صوت الباب يغلقه زيد بهدوء.
فغاصتْ في بحر ذكرياتها، حين كانت ترتدي ثوبًا أزرقا بينما تبحث عينها عن شخص تعلم أنّه لن يحضر أبدًا.
قطعتْ بحثها بدمعةِ استغاثة: يا علي ألست من تحضر الشدائد، يتيمةٌ بشدة وأنت أبو الأيتام امسح على رأس غريبة ليس لها في الدنيا إلاك.
تلك الكلمات التي انسابتْ معها دمعاتها ثم رددتْ: الحمد لله على كل حال.
ابنة التاسعة عشرة تودّع أمومتها بلا أمّ وبلا أب وبلا الغصة الأخيرة المسمّاة خطيب، فرات ذاك الذي انبسط له قلبها، منذ الطفولة وهي تعيش ملكة معه، صداقة، فحبّ كانتْ تظنّ بأنّ حياتها هي الأسعد لأنّها أحبّت من اختارته العائلة، فلا فراق ولا حرب ولا نار اشتياق، لكنّ القدر يأبى إلّا أن تكون لكلِّ فرد مغامرة، يتجرّعها بتفاصيلها فرحًا وألمًا، خطّتْ لغرفة العمليّات تنظر لتلك الأجهزة التي ستقتلع الورم وتخلّصها منه، تنظر إلى الممرّضات تستجدي إبرة المخدّر، تريدُ أن تغادر قوّة ذكرياتها وطيفه عندما كان يمازحها ويرفض تلك القائمة من أسماء الأطفال التي قدّمتها له، وهو يخبرها بأنّه لا يريد طفلًا يشغله عنها، نظرتْ إلى الساعة، بعد ساعتين فقط سيعقد قرانه، بعد أن أخبرها قبل شهر واحد بأنّه لن يتخلى عن أبوّته، هي تعلم أنّه على حقّ لكنّها جُرحتْ جرحًا عميقًا يفوق وجعُه تلك الجرعات التي سرقتْ شعرها وحلمها الوردي بحمل طفل يخصّها يومًا، أخذت تلك الابرة التي أثلجتْ دمها، نظرتْ كثيرًا إليها قبل أن تغمض عينها متأمّلة بأن يثلج الله صدرها.
فزعتْ وعادت من لجّة ذكرياتها على صوت الباب الذي فُتح فدخلت منه الممرّضة قائلة:
- الصغير يحتاجك هلّا تحنّنتِ عليه؟ ابتسمتْ وهي تضمّه إلى صدرها بعين دامعة، تُداعب يده الناعمة إنّه نسخة مصغّرة منها، قبّلته مغمضة العين، تتذكّر النغمة العذبة التي داعبت أذنيها عندما انتهت من عمليّة استئصال الورم:
- لقد رفعنا فقط مبيضًا واحدًا، يعني بإمكانكِ أن تكوني أمًّا!
يا لتشابه اللحظات! تلك التي عاشت فيها الأمومة بالقوّة وهذه اللحظة التي تعيشها بالفعل، جاء زوجها زيد وحمل طفله وهو يداعبه أطالتْ النظر إليه ثمّ رفعتْ عينها إليه قائلة: (علي) ليكن هكذا اسمه.
ابتسم زيد وهل سأختار له اسما غير (علي) وهو الذي اهداني عليا وأمه، علوية من علي بيوم غديره جالسة على أعتابه بوقار، نفضتْ دمعها ثم غفت تتكأ على يد والأخرى فيها (كانولة)، في الليل كنت أذهب وأعود لأجدكِ على ذات الحال، كانت هناك هالة من الهيبة تحيطكِ، حينها اتصلتُ بأمي لأخبرها أني وجدتُ ضالتي.
صوت طرقات الباب ثم دخلتْ امرأة سبعينية ومعها رجل بعمرها تتسند على يديه، وببحة أم تسألها: كيف حال ابنتي وحفيدي أخذه عمها ليؤذن في أذنه حتى وصل إلى الشهادة الثالثة فعطس الصغير ليضحك الجميع ثم قال الجد لقد صدقها.
ابتسمت ثم نظرت لصورة ضريح الامام علي معلقة أمامها ثم دعت:
- ربِّ شافِ عقم فرات وارزقه طفلًا!
اضافةتعليق
التعليقات