في عالمٍ باتت المفاهيم فيه تُقلب رأسًا على عقب، وتختلط فيه الأصوات حتى يصعب التمييز بين الحق والباطل، يعيش الإنسان اليوم حالة من التيه القيمي لم يعرف لها مثيل. لم تعد الخطيئة تُستحى، ولا المعروف يُكرم، وغدت القيم تُقاس بعدد المتابعين لا بميزان الضمير.
في زمنٍ كهذا، يصبح التمسك بالمبادئ ضربًا من المقاومة، والصدقُ شجاعةً نادرة، والإيمانُ امتحانًا يوميًا تتقاذفه رياح الشبهات.
تسارعت الأحداث وتكاثرت المنابر وتعددت الخطابات، حتى ضاع جوهر الدين في زحمة التفاصيل، فصار الناس يفتشون عن الحقيقة بين ركام التحليلات والمصالح الشخصية. وهنا تبرز حاجة ملحّة للعودة إلى الجذور، إلى الدين الذي جاء ليهذب لا ليُقيد، وليبني لا ليُهدم، إلى نور البصيرة الذي يفرق بين الصواب والزلل في زمنٍ كثرت فيه الظلال.
في زمن فوضى المفاهيم وتداخل الحلال بالحرام وطغيان المنكر وضعف المعروف، واختلاف معطيات الحق والباطل وتداخلهما في تفاصيل التفاصيل، نقف أحيانًا أمام الشبهات في حيرةٍ لا نعلم معها كيف يكون الموقف الصحيح، وهل التدخل واجبٌ أم أننا سنقع في شبهاتٍ أخرى من حيث لا نحتسب!
مع هذا الكمّ من المغالطات التي صيغت عمدًا لإفساد العقيدة وتمييع المبادئ، أصبحنا أمام مجتمعٍ متفككٍ أخلاقيًا يختلط فيه الوعي بالجهل، حتى باتت أساسيات الدين محلَّ جدلٍ ونقاش بعد أن كانت من المسلّمات. والأسوأ أن كثيرين باتوا يعترضون على العدالة الإلهية نفسها، وعلى الشكل والرزق والعائلة، وكأنهم نسوا أن أساس العبادة هو التسليم المطلق لله جلّ وعلا.
وفي خضم هذا الدوي، ارتفع صوت آخر لأولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الإصلاح، بعضهم غرق في حب الظهور والأنا حتى نسي إصلاح ذاته وأهله، وهو الأجدر أن يبدأ بنفسه قبل أن يعظ الآخرين.
أما القلة الصادقة التي أصلحت نفسها وأهلها، فهؤلاء هم الأنقياء الذين استقوا نهجهم من كتب وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، فصاروا كالشجرة المثمرة تُرمى بالحجارة لأنها مثمرة. يتخذون من قوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا…»
منهجًا ودستورًا، لأنهم أدركوا أن النجاة بالنفس وإصلاحها هو الأساس في زمنٍ تهتز فيه القيم وتُختبر فيه القلوب.
وفي النهاية، تبقى النجاة مرهونة بصدق النية وصفاء القلب، لا بكثرة الشعارات ولا بتعدد المنابر. فالمؤمن الحقيقي هو من يثبت على الحق وإن خذله الناس، ويصمد على مبدأه وإن تبدلت الموازين من حوله. طريق النجاة ليس مفروشًا بالتصفيق ولا بالمديح، بل بالصبر والمجاهدة والوعي. ومن جعل الله بوصلة قلبه، لن يضله ازدحام الأصوات ولا زيف المظاهر، لأنه يعلم أن النجاة في زمن الفوضى القيمية تبدأ من الداخل، من القلب الذي لم يتلوث، والعقل الذي لم يخضع، والنفس التي ما زالت تعرف طريقها إلى الله.








اضافةتعليق
التعليقات