يعيش الإنسان منذ فجر التاريخ تحت سحرٍ غامض اسمه الشباب، باحثاً عن سر التجدُد والخلود، ذاك الطور الذي تتوهج فيه الملامح بالحياة، وتزدهر فيه القوة والحلم، ويظن المرء أنّه خالد لا يشيخ، لكنّ رحلة الزمن لا تتوقف، والوجوه التي أشرقت يومًا لا بدّ أن يزورها الغروب ومع تقدّم العلم، بدأ الإنسان يسعى لاقتلاع جذور الشيخوخة، باحثًا عن "إكسير الحياة" الذي يردّ له نضارته الأولى.
في عصرنا الحديث، ظهر ما يشبه الأسطورة العلمية الجديدة تحت عنوان "الخلايا الجذعية وحفظ الشباب"، لتغدو حديث الناس في المنتديات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، الخلايا الجذعية هي نوعٌ خاص من الخلايا القادرة على التحوّل إلى أنواع متعددة من خلايا الجسم، كخلايا الجلد والعظم والدم ، وقد وُجِد أنّ لها قدرة مدهشة على إصلاح الأنسجة المتضرّرة، وهو ما جعل العلماء يفكرون في توظيفها لعلاج أمراض خطيرة مثل السرطان وأمراض القلب والدماغ، ومع هذه الاكتشافات الحقيقية، تسلّل الخيال التجاري والطموح غير المنضبط إلى الميادين، فبدأت بعض المراكز والإعلانات تروّج لما أسمته “علاج الشيخوخة بالخلايا الجذعية” أو “حُقن الشباب الأبدي”، مدّعية أنّها تستطيع أن تُعيد للوجه نضارته وللجسد طاقته المفقودة.
هكذا تحوّلت الفكرة العلمية إلى حلمٍ يُباع ويُشترى في سوقٍ مفتوح على الأوهام، لكن الحقيقة العلمية الثابتة حتى اليوم هي أنّ الخلايا الجذعية لم تُثبِت طبّياً قدرتها على إيقاف الشيخوخة أو استعادة الشباب المفقود، وقد أكدت ذلك مؤسسات علمية كبرى مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) التي صرّحت بوضوح أنّ هذه العلاجات ما زالت في مرحلة البحث والتجريب، وأنّ ما يُعرض في بعض المراكز التجارية يفتقر إلى الأسس العلمية وقد يُعرّض الإنسان لمضاعفات خطيرة.
أما في عالمٍ يسوده القلق من التقدّم في العمر، وهوس التجميل، يجد الناس أنفسهم فريسة سهلة للإعلانات المبهرة التي تُزيّن فكرة “العودة إلى الشباب” وكأنها أمر ممكن في عيادة تجميل أو عبر حقنة سحرية، تُغريهم صور الفنانين والمشاهير وهم يعلنون عن “علاجات بالخلايا الجذعية” تعيد النضارة للبشرة وتشدّ العضلات وتُزيل التجاعيد، بينما يغيب عن أذهان الكثيرين أنّ أغلب تلك الصور لا تمتّ إلى العلم بصلة، بل هي جزء من دعاية تجارية مُربحة تستغلّ هوس الإنسان بجماله وزمنه المفقود.
معظم ما يُروَّج حاليًا من “علاجات شباب بالخلايا الجذعية” يعتمد على خلايا غير نقيّة أو ميتة لا تؤدي وظيفة حقيقية في الجسم، وبعضها قد يسبّب أورامًا أو التهابات خطيرة، فما يبدو علاجًا معجزا في مقطع فيديو قصير، قد يكون في الواقع تجربة غير مرخّصة لم تخضع لأي اختبار سريري معتمد.
وقد تمَّ الاعتماد على أجسام الأطفال في سحب الخلايا الجذعية ، ويعد هذا العمل مخالفا للقانون والدين والعِرف، فأجسام الأطفال ليست مختبرًا لرغبات الكبار، ومن المؤسف أنّ هذا الهوس بالشباب الأبدي وصل إلى حدودٍ تمسّ براءة الأطفال وحقوقهم، فقد بدأت بعض الشركات تسوّق فكرة “أخذ الخلايا الجذعية من الأطفال” — سواء من دم الحبل السري أو من خلايا أخرى — لاستخدامها في مشاريع تجميلية أو بحثية تهدف إلى “تجديد خلايا الكبار” ورغم أنّ أخذ الدم من الحبل السري بعد الولادة لا يضرّ الطفل، إلا أنّ تحويل هذه العملية إلى تجارة أو مشروع تجميلي يُعدّ انتهاكًا واضحًا. لأنَّ جسد الطفل ملكٌ له وحده، ولا يمكن لأحد — حتى والديه — أن يتصرّف فيه لأغراض غير علاجية، وقد نصّت القوانين الطبية والاتفاقيات الدولية على أنّ الخلايا الجذعية البشرية لا يجوز استخدامها إلا لأغراض علاجية علمية خاضعة للرقابة، لا لأغراض تجميلية أو تجارية، فانَّ أي محاولة لاستغلال أجساد الأطفال أو أنسجتهم في سبيل “حفظ الشباب” تعدّ خرقًا خطيرًا لحقوق الإنسان، مهما بدت مبرّراتها العلمية جذّابة، وفي السنوات الأخيرة، تحوّل موضوع الخلايا الجذعية إلى ظاهرة رقمية واسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، فالمؤثرون والمدوّنون والخبراء الجدد يملؤون المنصّات بمقاطع تَعِدُ بتجديد الشباب عبر جلسة واحدة، أو حقنة صغيرة تعيد النضارة وتوقف الزمن، ووفق هذا يُوجه العلم لتسويق الأمل، وتُستغل المصطلحات الطبية لإقناع الجمهور البسيط الذي لا يملك الخبرة الكافية لتمييز الحقيقة من الادّعاء.
وقد أظهرت دراسات إعلامية حديثة أنّ نسبة كبيرة من المنشورات المتداولة حول الخلايا الجذعية على الإنترنت تحتوي على معلومات مضلّلة أو ناقصة، والكثير من المستخدمين يشاركونها دون التحقق من مصدرها.
هكذا، صار “الكيّ بجرعة وهم” نوعًا من الطبّ الرقمي الجديد، يُسكِّن الخوف من الشيخوخة لكنه لا يُعالجها، الشباب الحقيقي ليس في الخلايا، فالشباب بمعناه الأصيل، ليس في نضارة البشرة ولا في امتلاء الوجه، بل في الروح المتوثبة والعقل المتجدّد، والقلب الذي ما زال يؤمن بالحب والحياة ، كم من إنسانٍ متقدّم في العمر ما زال ينبض بالعطاء والحيوية، وكم من شابٍ صغير أُرهق قبل أوانه بفقدان المعنى والغاية، وعلى هذا فالبحث عن الشباب الأبدي عبر الخلايا الجذعية هو في جوهره بحثٌ عن الخلود الماديّ، بينما الإنسان خُلق زائلًا ليترك أثره لا شكله.
فما فائدة أن يحتفظ المرء بوجهٍ شابٍّ إذا كان قلبه قد شاخ من الداخل؟ وما جدوى أن تُنفق الملايين على حُقنٍ مجهولة، في حين يمكن استعادة الشباب الحقيقي عبر الرضا، والتفاؤل، والعمل، والعلاقات الصافية؟
وبين كل هذه المفارقات علينا ادراك أن العلم لا يُدان، لكنه يحتاج إلى ميزانٍ من الأخلاق والضمير، فالخلايا الجذعية باب عظيم من أبواب الطب الحديث، قد تُنقذ حياة مريض بالسرطان أو تُرمّم قلبًا متعبًا، ولا يجب أن تُحوَّل إلى سلعةٍ تُباع في أسواق الوهم، الفرق بين الأمل والوهم هو الصدق العلمي، والفرق بين البحث والعبث هو النية الإنسانية التي تقف خلف التجربة، أما عن مسؤولية المجتمع اليوم — أفرادًا ومؤسسات وإعلامًا — هي التوعية بخطورة الانسياق وراء الإعلانات الزائفة، وتشجيع الناس على السؤال قبل التصديق، والبحث قبل الإقدام.
“وهمُ الشباب الأبدي بالخلايا الجذعية” هو مرآة لقلق الإنسان من الفناء أكثر مما هو مشروع علمي جاد، فالخوف من الشيخوخة ليس مرضًا جسديًا، بل هاجسٌ نفسيّ وثقافيّ صنعته صورة الجمال السريعة التي تبثّها الشاشات، لكنّ الزمن لا يُقاوَم بالحُقن ولا بالمختبرات، بل بالفكر والإيمان والقبول.








اضافةتعليق
التعليقات