قام علماء النفس بدراسات عديدة لمعرفة نشأة التفكير لدى الطفل ومراحل تطوره، كان في مقدمتهم العالم الإنجليزي «بيرت» والعالمين الفرنسيين «هازلت» و «ديشيه» ثم هناك أولا وقبل كل شيء بحوث عـالم النفس السويسري الأشهر «جان بياجيـه» الذي يعتبر حجة في موضوع التفكير لدى الطفل، ولقد انتهى هؤلاء جميعاً إلى النتائج التالية: يقتضي التفكير وجود عدد كبير من المعاني والصور العقلية تكون بمثابة ذخيرة يستمد منها مقوماته.
ويقتضي أيضاً وجود علاقات مختلفة بين هذه المعاني والصور التي تصطبغ أولا بمسحة حسية لدى الطفل، ثم تعلو بعد ذلك إلى مرتبة معنوية مجردة يقوم بها العقل بعد أن يتم نضجه ويصبح الإمكان تعميم الأحكام بواسطة الاستدلال العقلي وتجريد المعـاني من مظاهرها الحسية.
فالطفل أولاً يُكون المعاني عن الأشياء التي يضطر إلى استخدامها ومن خلال تكرار الاستخدام يفهم الطفل معنى هذا الشيء فمثلاً تكرار رؤية زجاجة اللبن وتناوله منها باستمرار ثم ما يترتب عليه من راحة، يعرف الطفل بمضي الزمن أن هذه الزجاجة خُصصت لأجل تلك العملية فقط أما قطعة الخشب التي يراها إلى جانبه فإنها لا يمكنها أن تؤدي الوظيفة السابقة أو هكذا يبدأ الطفل في التمييز بين الأشياء المحيطة به وهي ما تسمى بمرحلة التمييز بعد أن كان أولا يعجز عن القيام بها ويظن أن لكل الأشياء وظيفة واحـدة هي إشباع حاجته للطعام، وبمضي الزمن تزداد عملية التمييز والتخصيص ويرتفع المعـدل عن مستـوى الصـورة الحسية إلى مستـوى الاستدلال العقلي بواسطة التجريد ثم التعميم. وقد انتهى العلماء إلى أن التفكير العقلي والاستدلال المنطقي الناضج لا يكتمل لدى الطفل إلا فيما بين سن الحادية عشر والثانية عشر.
إن العقل لم يكن قد تم نضجه تماماً قبل ذلك بل كانت الحواس والمستوى الجسمي هو الذي يقوم بأغلب عمليات الإدراك والتفسير، فمثلا يظن الطفل الصغير ذو السنوات الثلاث أو الأربع عند سماعه المذياع أن الشخص المتكلم يوجد فعلا داخل الجهـاز، أيضاً لا يتمكن هذا الطفل أن يحسب جمعاً أو طرحاً أي عدد من الأرقام إلا إذا استخدم أصابع يديه.
وهكذا في بقية العمليات الأخرى لأنه لا زال في المستوى الحسي، وطبعاً تتغير كل هذه التفسيرات عندما يرقى الفرد إلى المستوى العقلي؟ فالطفل يستخدم الألفاظ أولا دون أن يعرف معانيها كاملة، لكن عندما ينضج عقله يستطيع أن يفهم هذه المعاني بعد أن يجردها من مظاهرها الحسية فتراه في سن السادسة أو السابعة لا يفهم معاني الشفقة أو الحرام والحلال في صورتها الأخلاقية المجردة، بل لا بد أن يكون في مواقف محسوسة قد يخلط فيها بين الكائن الحي والجهاد فيظن أن ضرب الأرض التي تسببت في وقوعه يؤلمها كعقاب لها، عكس طفل آخر تخطى الثانية عشر بمراحل فإنه يستطيع فهم هذا كله ولا يمكنه أن يخلط أبدأ بين هذه الأوضاع لماذا؟ لأن عقله وتفكيره قد تكون فعلا ووصل إلى مستوى راق.
إذن يمكننا القول بأن محوري التفكير الرئيسيين هما أولاً: إدراك ذو مستوى حسي خارجي وثانياً عمليات عقلية داخلية، أن الإنسان في مرحلة طفولته الأولى يغلب على تفكيره المظهر الحسي ثم يأخذ بعد ذلك المظهر العقلي، بل وأن تفكير الإنسان العادي في الحياة لا بد أن يستمد مقوماته ومادته أولا من العالم الخارجي بواسطة الإدراك ثم يقـوم العقل بعد ذلك بعملياته الداخلية المختلفة التي نطلق عليها اسم التفكير، وقد انتهى أغلب علماء النفس حالياً إلى أن التفكير يحتاج إلى صور حسّية ندركها من الخارج بالحواس المختلفة ولا يمكن أن يقوم التفكير بدونها ومهما كان موضوع التفكير عقلياً مجرداً خالصاً فإنه لا بد وأن يستمد بعض مقوماته من العالم الحسي ويمكن ملاحظة أنه كلما كان التفكير راقياً وصادراً من عقل ناضج فإنه يعتمد على أقل قدر ممكن من الصـور الحسية ويغلب عليـه المستوى العقلي المجرد.
أما إذا كان التفكير بسيطاً ساذجاً وصادراً من شخص غير ناضج تماماً فلا بد وأن يغلب عليه المستوى الحسي وتفسيراته البسيطة المادية كالتي نراها لدى الأطفال الصغار. والواقع أن الشخص المتكامل لا بد وأن يجمع في ثنايا تفكيره بين هذين الشقين الحسي والعقلي لأنه لا يمكن الإقتصار على واحد منها أبدأ، فكل فرد يمتلك مجموعة من الحواس تستقبل المؤثرات الخارجية المتعددة وتنقلها إلى المخ ثم يبدأ العقل بعد ذلك في إعطاء المعاني المختلفة لهذه المؤثرات.
وبدون هذين الشقين لا يمكن أن يقوم التفكير الحقيقي. وإن الإكتفاء بالمرحلة الحسية المستقبلة فقط يحط من قدر الإنسان ويجعله يتساوى مع الحيوان الذي يمتلك أيضاً نفس الحواس المستقبلة لكن يعجز عن أن يسبغ عليها شيئاً من التفكير العقلي الذي تميز به الإنسان دون غيره من بقية الكائنات. وبناء على ذلك فالتفكير يتم في مرحلتين أساسيتين:
أولاً: إدراك حسي خارجي.
ثانياً: عمليات وقدرات عقلية كالتخيل والتذكر والتعرف والذكاء فهي التي تسبغ على الـمدركات الحسية صفة التفكير حيث نستخدمها بدرجات متفاوتة عند تناول واستقبال تلك المدركات الخارجية.
اضافةتعليق
التعليقات