اعلم أن الإنسان خُلق للحياة الدائمة والعيش السرمدي، وقد جعل الله هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، ورتّب الجزاء في الآخرة على الأعمال في الدنيا، فكان تأهل العباد لتلك السعادة الأبدية بهذه الأعمال الدنيوية.
فإن الأنسان العاقل والطالب لرضا الله وطاعته، يحرص على انتقاء أفضل الأعمال التي يملأ بها هذا الوقت القصير من العمر، الذي سيحدّد مصيرهُ الأبدي في الجحيم أو النعيم. فإن من سنَّ سنّة هدى فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. كما أن من سنَّ سنّة ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وقد جعل الله في أحكامه أنّ الوالدين شركاء مع أولادهما فيما يعملون من أعمال خير أو شر فهم البيئة والمنهل الأول لرفد أفكارهم بمفاهيم الحياة.
ومن أسباب القبول والرضا في الزواج المبارك لأم البنين؛ هو طاعة الله ورضا وصّي الرسول وزوج ابنته البتول، وإن كانت تلك المكانة أمانة كبيرة. ولكن عِظم مقام هذه السيدة، وسعة وجودها الإلهي بما تملكه من استعدادات وقابليات أهّلتها لتكون بهذه الوجاهة والكرامة عند الله سبحانه وتعالى.
فكانت نعم الأم المربية لأولياء الزهراء عليها السلام بل حتى أنها تؤثرهم على أولادها. حيث كانت تقدّم أبناء الصديقة فاطمة الزهراء "عليها السلام" على أبنائها وهي التي علمتهم أن لا سواء بينكم وبين الحسن والحسين وزينب، فموتوا دونهم، ولا تقولوا أن أبانا أمير المؤمنين "عليه السلام" ، لتنال بذلك رضا الله ورضا نبيه، وتكون مبيضة الوجه غداً يوم القيامة بين يدي فاطمة الزهراء "عليها السلام".
ظاهراً كانت السيدة فاطمة بنت حذام الكلابية المكناة (بأم البنين) شخصية عادية من حيث عدم إنتمائها لبيوت الأنبياء والأوصياء قبل ارتباطها بالإمام علي (عليه السلام)، إلا إن الله تعالى وهبها درجة علم ومعرفة عجيبة! وهذا يُشير إلى سمو روح هذه السيدة الإلهية وطهارة نفسها ونقاوتها وتقواها التي أوصلتها إلى هذه المرتبة من الذوبان بسيد الشهداء (عليه السلام) حتى إنها تخلت عن اسمها رعاية لمشاعر ذرية بيت النبوة والإمامة، وفدته بذراريها، وهل هناك أحب للأم من أبنائها؟!
إلا أنها صَنعت منهم درعاً وحصناً حول قلبها ووهبتهم لربها قرباناً ليبقى وجود حب إمامها حياً بقلبها ومحيّاً لوجودها بعد رحيلها، حيث ورد أنه لما رجعت القافلة للمدينة بعد واقعة كربلاء أنها قالت: "قَطَعت نياط قلبي أولادي الأربعة، ومن تحت الخضراء فداء لسيدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
إنها لم تخرج بجسدها إلى كربلاء إلّا أنها أخرجت أفلاذ كبدها واقترن اسمها من خلال موقف أبناءها بقضية الطف، وصار اسمها مقروناً باسم الحسين وثورته، ومن اقترن اسمه باسم الحسين عليه السلام بأي شكل من الأشكال ولأي سبب من الأسباب كُتِب له الخلود حتى أنك لاتكاد تسمع لباقي نساءأمير المؤمنين عليه السلام ذكر إلّا في ظلال ذكر أُم البنين "عليها السلام".
لقد أكرمها الله بالوجاهة والمودة في قلوب الخواص والعوام. حتى أنها وسيلة المؤمن إلى الله في قضاء الحوائج. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. ومن مصاديق وجاهة السيدة في الآخرة بما يصف الله أنبياءه والمخلصين من عباده تعالى عزّ وجل يصف نبيه عيسى (عليه السلام) بأنه وجيهاً بقوله: {... إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. في سورة "آل عمران".
لقد جعل الله أم البنين باباً من أبواب رحمته، ما قصدها أحد إلّا ونال قصده، وما توجه بها إلى الله عزّ وجل متوجه إلّا أعطى سؤله، ومن شاء فليتوسل إلى الله بها ليعلم صدق ذلك.
فيما نرى أُم البنين عليها السلام تزف أولادها الأربعة إلى أعراس المنية وهي تعلم أنهم سيسبحون كالأقمار في غدير الدماء، ومع أنها سرحت قلبها معهم وبقيت ترفرف بروحها على ساحة المعركة وتترقب أخبارهم من القادمين، ويا ليتها كانت حاضرة فترى مفاخرهم وبطولاتهم فيهون عليها الخطب، ولربما كان أهون عليها من تحمل الفراق، ومناشدة الركبان. وقد ذابت هذه المخدرة المكرمة في ولائها لهم، وتمسكت بهداهم، واقتدت بآثارهم حتى صارت من أولياء الله المقربين عنده وعندهم.
فارتفعت إلى أعلى عليين من خلال سبيل الكمال الذي رسمه الله لها ولجميع خلقه، فكانت أُم البنين عليها السلام من السابقين في هذا الميدان حتى صارت ذا جاهٍ ومقام عريض عند أهل البيت عليهم السلام وعند بارئهم.
وبالرغم من أنها كانت ولا زالت من أبواب الله، ومن أبرز أعلام نساء التاريخ، إلّا أنّ من المؤسف له، فإن التاريخ لم يعطها حقها كما هو شأنه مع الأبرار فإنك لا تكاد تعثر في المصادر عن شيء فيه تفصيل عن حياة هذه الكريمة، عن تاريخ ولادتها، طفولتها، شبابها، كم هو عمرها يوم دخلت بيت أمير المؤمنين عليه السلام.. تفاصيل حياتها مع زوجها ومع أبناء رسول الله.. فإنها لا شك كانت زوجة مثالية رغم أنها لم تكن معصومة كفاطمة عليها السلام، ولا ريب أنها كانت من أبرز مصاديق عمال الله في الأرض.
تغافل المؤرخون والرواة عن متابعة تفاصيل حياة امرأة تعد لوحدها أمة، ومدرسة متكاملة للأجيال، وخاضوا في جزئيات حياة حفنة من الطغاة والأوغاد.. ولعل من جملة الأسباب الكامنة وراء ذلك:
أنها كانت زوجة أمير المؤمنين "عليه السلام". عاشت في كنفه وفي ظل بيت ضمّ من قبلها فاطمة عليها السلام ومن ثم ضمّ أولاد فاطمة الزهراء، وسيدا شباب أهل الجنة، هنيئاً لتلك المرأة الفاضلة التي اختارت لأولادها الشهادة وقدمتهم قرباناً في سبيل الحق. وهي كمن قائل: من غمرته أنوار الشمس تضاءل شعاعه مهما كان نيّراً.
اضافةتعليق
التعليقات