عندما تموت الرحمة في قلب الأبناء، ويبتعدون عن الأمر الإلهي في حفظ الأمانة في رعايتهم لوالديهم، فيصبح بر الوالدين دين في رقابهم الأول يأخذهم ويقربهم إلى الله، والثاني معصية يردها الله لهم في الدنيا قبل الآخرة.
تمرد الأبناء على الآباء ظاهرة موجودة في مجتمعاتنا منذ القدم، ونحن الآن في زمان فتن وزمان قل فيه الاحترام والتقدير، وعندما أوصى الله الأبناء بالآباء خيراً فإن ذلك كان لعلمه أنهم قد يتجاهلون آباءهم. أما الآباء فإن فطرة الرحمة موجودة في قلوبهم.
وجعل الله -تعالى- الحقّ ببرّ الوالدين بعد حقّه مباشرةً، ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، كما أنّ الله -تعالى- أمر بشكر الوالدين بعد شكره، ودليل ذلك قول الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
ما المقصود بالعقوق: العقوق لغةً هو القطع والشق، أمّا اصطلاحاً فعقوق الوالدين هو مخالفتهما فيما ينفعهما من أغراضهما الجائزة، وإلحاق الأذية بهما، بقول أو فعل، إلا في معصية أو شرك، فيحصل لهما بذلك أذيّة ليست بالهيّنة عرفاً. وقد سئُل رسول الله "صلى الله عليه وآله" عن أحب الأشياء إلى الله قال: (الصلاة في وقتِها ثم برُ الوالدين. ثم الجهادُ في سبيلِ الله).
ممالا شكَ فيهِ أن عقوقَ الوالدين من أعظم الذنوب عند الله، وكثير من الناس يظنون أن عقوق الوالدين هو الضرب والصراخ عليهما ورميهما في ملجأ أو في دار العجزة ونحو ذلك من الصور التي تذكر في بعض وسائل الإعلام والقصص، وهذا التصور وإن كان صحيحاً في جزئية منه إلا أن صور العقوق كثيرة ومتعددة، فمجرد أن يقول الابن لوالده أف أو يبدي تضجره فهذا من أنواع العقوق التي نهى عنها الله تعالى بقوله: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما) و(أف) هي أقل درجات الانزعاج وإظهار الضجر، فقد يأمر الأب ابنه بشيء فيغير الابن نبرة كلامه ويظهر انزعاجه مما أمره به والده أو والدته فتكون (أف) أو نحوها من تغيير نبرة الصوت أو رفعه أو عبوس الوجه الذي يدل على عدم رضا الابن برأي أبيه وغيرها من الطرق التي مآلها إلى هذا المعنى الذي ذكره الله جل وعلا في كتابه العزيز واعتبره من المحرمات وهو من صور العقوق والعياذ بالله.
والعجب كل العجب!، أصبح عقوق الأبناء للوالدين ظاهرة منتشرة بشكل كبير خاصة في مرحلة المراهقة حيث غاب في كثير من منازلنا احترام الأبناء للآباء وعدم إعارة اهتمام لغضبهما أو رضاهما ومع تدفق الثقافات والعادات الوافدة ازدادت معاناة الآباء من ظاهرة التمرد التي تعني الرفض والعصيان وعدم الالتزام بأوامر الآباء، والتمرد في أوساط الأبناء وخاصة المراهقين منهم مسألة خطيرة على الفرد نفسه وعلى الأسرة والمجتمع، وتبدأ شرارة التمرد في البيئة الأسرية أولاً وذلك برفض أوامر الوالدين وعدم الانصياع لهما.
فمن الأبناء من يسيء الأدب مع والديه إما بالتصرف الخاطئ أو النظرة الحادة أو العقوق الظاهر والبعض يهجر والديه بالكلام والبعد عنهم، وهناك أبناء يصرخون في وجوه آبائهم، ويعتصرني الألم حين أقول بل هناك حتى من يضرب والديه!.
فالله سبحانه وتعالى.. فطر الإنسان على احترام والديه وتقديرهما والعناية بهما، وجاء القرآن الكريم الذي عني بإتمام مكارم الأخلاق ليركِّز على هذه القيم فأمر المسلم بتقدير والديه وطاعتهما، حتى لو كانا غير مسلمين، ونهى عن عقوق الوالدين وأمر ببرهما ووصلهما. لكن المشاهد للواقع المحلي ينفطر قلبه جراء ما يشاهده بعينيه من تفشي مظاهر العقوق في المجتمع بصورة ملحوظة.
الجزاء من نفس العمل:
والعقوق من المعاصي التي تُعجّل بها العقوبة للعاقّ في الدنيا، كما تؤجّل له عقوبة في الآخرة أيضاً، أمّا نوعية هذه العقوبة فهي ليست محدّدة، ولكنّ الجزاء من جنس العمل، فقد يبتلي الله بأولاد يعقونه.
ولا بد لي من التذكير بقوله صلى الله عليه وآله: “بروا آباءكم تبركم أبناؤكم” فإذا رأى الأبناء أن الأب يبر أباه بالكلمة والاحترام والتقدير، وبالدعاء والصدقة إن كان ميتاً فإن هذا ينعكس في نفوسهم فيتأثرون به. فإن كان الوالدان عاقين لوالديهم عوقبا بعقوق أولادهما- في الغالب- وذلك من جهتين: أن الأولاد يقتدون بآبائهم في العقوق. وأن الجزاء من جنس العمل. وهناك عبارة جميلة جاء فيها: (الهداية من الله والتربية من الآباء) فدور الأسرة في اظهار البر واحترام الكبير دور كبير في تعزيز تلك العلاقات وغرسها عند الأبناء فنجد بعض الوالدين لا يعين أولاده على البر، ولا يشجعهم على الإحسان إذا أحسنوا، فحق الوالدين عظيم، وهو واجب بكل حال، لكنَّ الأولاد إذا لم يجدوا التشجيع، والدعاء، والإعانة من الوالدين- ربما ملُّوا، وتركوا بر الوالدين، أو قصَّروا في ذلك.
أسباب العقوق:
ولعقوق الوالدين أسباب كثيرة منها:
– الجهل: فالجهل داءٌ قاتل، والجاهل عدو نفسه، فإذا جهل المرء عواقب العقوق العاجلة والآجلة، وجهل ثمرات البِّر العاجلة والآجلة، قاده ذلك إلى العقوق، وصرفه عن البر.
- وسوء التربية: فالوالدان إذا لم يربيا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، فإن ذلك سيقودهم إلى التمرد والعقوق.
- والتناقض: وذلك إذا كان الوالدان يعلِّمان الأولاد، وهما لا يعملان بما يُعَلِّمان، بل ربما يعملان نقيض ذلك؛ فهذا الأمر مدعاة للتمرد والعقوق.
- والصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسد الأولاد، ومما يجرئهم على العقوق، كما أنها ترهق الوالدين، وتضعف أثرهم في تربية أبنائهم.
- قلة تقوى الله في حالة الطلاق: فكثير من الأزواج إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، فيحرض أحدهما على الآخر ويتخذ ابنه سفيراً للكلمات السيئة والألفاظ البذيئة. والتفرقة بين الأولاد: فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناء والبغضاء، فتسود بينهم روح الكراهية، ويقودهم ذلك إلى بغض الوالدين وقطيعتهما.
- إيثار الراحة: فبعض الناس إذا كان لديه والدان كبيران أو مريضان، رغب في التخلص منهما، إما بإيداعهما دور العَجَزة، أو بترك المنزل والسكنى خارجه، أو غير ذلك؛ إيثارًا للراحة- كما يزعم- وما علم أن راحته إنما هي بلزوم والديه وبرِّهما.
- سوء خلق الزوجة: فقد يبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتجدها تغري الزوج، بأن يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما؛ ليخلو لها الجوّ بزوجها، وتستأثر به دون غيرها.
- الشدة المتناهية على الأبناء والتسلط في التعامل مع الأبناء ومصادرة آرائهم وإرادتهم والتشديد عليهم.
- ثقة بعض الآباء العمياء بأبنائهم وعدم مراقبتهم والسكوت على الخطأ الصغير الذي يصبح بعد ذلك شرخا كبيرا.
- ولا ننسى أخيراً أثر المسلسلات الأجنبية والفضائيات التي لها دور كبير في انتشار ظاهرة العقوق وزرع بذور التمرد في الأبناء.
إذن ماهي سبل العلاج؟
وبالتالي أرى أن أسباب هذا التمرد تعود إلى التدليل الزائد من الآباء للأبناء، أو القسوة المفرطة.. كما أن هناك نقطة مهمة جداً وحساسة في هذه القضية وهي عدم توفير الصداقة الصالحة للأبناء، إضافة إلى إهمال الأبناء وعدم أخذهم إلى مجالس الكبار، ولو جلس هؤلاء الشباب مع الكبار لاستفادوا فائدة عظيمة وتعلموا منهم لأن (المجالس مدارس) كما يقولون.. وهنالك أمر آخر وهو إعطاء الأبناء الثقة والاحترام والتقدير والحب والحنان، هذه الأسباب بإذن الله عز وجل مع الدعاء لهم كفيلة بأن تساهم في صلاحهم.
دعاء الآباء للأبناء من أهم أسباب صلاحهم وقد أمرنا الشرع في مثل هذه الحالات بالالتجاء إلى الله في إصلاح الأبناء لأن الإنسان قد يتعب في تربية ابنه ويبذل جهدا ورغم ذلك يكون مصيره الفشل والانحراف، قال تعالى: “والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما”. ومما لا شك فيه أول بذرة صالحة تُغرس وتطرح ثمار المحبة والألفة والتربية السليمة للطفل هي "الأم" وتبدأ باختيار الزوجة الصالحة التي تربي أبناءها على الأخلاق الفاضلة.
أما الأب فهو الراعي الحقيقي بتلك البذرة وماتطرحه. فاحتضانه لأولاده ووجوده قدوة حسنة في محيط الطفل الأسري يتبادل معه الآراء، ويحل المشاكل التي يمر بها الأبناء وأن تكون العلاقة مبنية على الصراحة والوضوح منذ الصغر وإعطاء الأبناء فرصة للاعتماد على أنفسهم، والاهتمام بالميول الشخصية للمراهق، ورغم مشاغل الحياة وجهود العمل المضنية يجب الحرص على لم شمل العائلة والإنصات لحديث الأبناء وفسح المجال لهم بإبداء الرأي والمشاركة في الأمور التي تخص العائلة هذا يعزز الترابط الأسري ويشعر أنه هو جزء من مؤسسة مشتركة.
اضافةتعليق
التعليقات