من أعظم الصور لجلالة الله وعظمة خلقه هو الماء، وكيفية جعله اكسير الحياة كما ذُكر في القرآن الكريم [وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]١.
فالماء عبارة عن اتحاد جزئين كيميائيين (هيدروجين وأوكسجين) ليتحول ذاك الترابط إلى سائل شفاف ليس له طعم أو رائحة مميزة، وله تغيرات فيزيائية باختلاف درجات الحرارة من تجمد وتبخر وتكثف ليتحول إلى سائل وصلب وبخار وكل حالة لها خاصية تختلف عن الأخرى مما حول الأرض إلى كوكب صالح للحياة، فالماء يُغطّي حوالي 71% من سطح الأرض2.
على الرغم من بساطته ظاهرياً إلا إنه المكون الأساسي لدورة الحياة لجميع المخلوقات كما يُعدّ الماء مذيباً عاماً للعديد من المركّبات بسبب خواصّه الكيميائية والفيزيائية، مثل الجزيئات الحيوية كالمادة الوراثية، والمركبات السكريّة، والبروتينية، بالإضافة إلى أنّ الماء يَلعب دوراً أساسيّاً في عمليات البناء الضوئي للنباتات.
ويعتبر الماء المكون الأساسي لجسم الانسان وقد تختلف نسبة الماء في جسم الإنسان حسب عمره، إذ تُشكِّل نسبة الماء لدى الشخص البالغ 70-90% من جسمه الكلّي، أمّا الشخص المسن فيُشكِّل الماء ما نسبته 65-70% من جسمه، وتبلغ هذه النسبة لدى المواليد الجدد 85-90% من الوزن الكلي للطفل، فيما يُشكِّل الماء أكثر من 90% من وزن الجنين3.
ومن رحمة الله أن الماء يشكل أغلبية سطح الأرض كما ذكرنا سابقاً، وقد سنّت أحكام شرعية وفقهية خاصة به، وأصبح أساس لأهم أركان الإسلام مثل الوضوء للصلاة، كذلك الأغسال الواجبة والمستحبة، والعامل الأساسي للطهارة، وله عدة فرعيات فقهية من تحريم اهداره والتبذير وغيره من الأمور الأخرى.
إذاً للماء أهمية عظيمة فهو قوام الحياة لجميع الكائنات وليس للإنسان فقط، وقلّته لها أضرار عديدة سواء على الكوكب أو المخلوقات بشكل عام والانسان بشكل خاص.
قلة الماء تؤدي إلى ظاهرة التصحر، وهي تحول البيئة الصالحة للزراعة غير قابلة للزراعة والسكن أيضاً مما يؤثر على المملكة النباتية وبالتالي إلى تضرر المملكة الحيوانية لاعتمادها على أختها وبالأخير على الانسان.
ولكن ماهي الاضرار المباشرة لقلة الماء على جسم الانسان؟
من أهم وأخطر أضرار قلة الماء كما صنفتها العلوم الطبية على مستوى العالم هي كالتالي:
* الجفاف: وهو فقدان السوائل سواء بفقدان الجسم كمية من السوائل، وخاصة الماء، أكثر من الكمية المستهلكة خلال النشاط الجسماني اليومي من خلال التبخر في التنفس، العرق، البول والبراز.
أو قلة تناول السوائل بالكمية المناسبة لجسم الإنسان، ومع فقدان الماء يخسر الجسم أيضا كمية صغيرة من الأملاح، مقابل الكمية المستهلكة، فينتج عن ذلك توازن سلبي يؤدي إلى جفاف شديد قد يؤدي إلى الموت.
* انعدام التوازن الكيميائي داخل الجسم: تؤثّر قلة كمية الماء الموجودة في الجسم على توازن العديد من المعادن والفيتامينات الموجودة في الجسم؛ حيث إنّ حدوث أي خلل كيميائي يؤثر بشكل كبير على صحة الإنسان، فمن الممكن أن يؤدي إلى عدم توازن في دقات القلب، وحدوث التشنجات، والصدمات، وفقدان الوعي، والفشل الكلوي.
* جفاف الجلد؛ يبدو الجلد مجعد ومتشقق حيث يفقد مع السوائل ليونته.
* جفاف الفم؛ يؤدّي نقص الماء إلى نقص كمية اللعاب المفرزة في الفم مما يؤدي إلى جفاف اللسان واللثة مما يؤثر على البلع.
* التهاب رئوي: عند تعرض الرئتين للجفاف يؤثر ذلك على عملية التنفس مما يؤدي الى ضيق النفس والتشجنات والالتهاب الرئوي الحاد.
* التهاب المفاصل: تؤدي قلّة المياه في الجسم إلى الإصابة بالتهاب المفاصل، وحدوث احتكاك لها مع بعضها البعض.
كل تلك الأضرار وغيرها لها تأثير سلبي مزمن خطير على صحة الانسان وبتأكيد الأطفال هم الضحية العظمى.
لذلك من أفجع الجرائم البشرية هي منع الماء عن الغير دون وجه حق، وقد شرّعت قوانين دولية تمنع هذا الجرم، وتم اقرار قوانين صارمة بحق مرتكب هذه الجريمة (مجرم حرب).
ولهذا في كربلاء كانت مصيبة عطش الامام الحسين (ع) وأهل بيته عليهم السلام أعظم من قتله.
حيث منع الماء عن المخيم دون استثناء أي فرد لمدة ٣ أيام وأغلب من في المخيم هم الأطفال تتراوح أعمارهم من رضع إلى من لم يبلغ الحلم.
يُشكِّل الماء ما يقارب 99% من الجسم الزجاجي للعين، و 90% من الدم، و79% من القلب، و75% من عضلات الجسم وأعضاؤه الداخلية، و75% من العقل، و30% من العظام، و1.8% من مينا الأسنان.
إذاً أول عضو يتعرض للجفاف في جسد الانسان هو (العين)، لذلك نجد الامام الحسين (ع) كان تعلو عينيه الطاهرتين غشاوة من شدة الظمأ، وقد وصل الجفاف في رئتيه بحيث كان يُرى الغبار يدخل ويخرج من فمه الشريف مع انفاسه!.
وعندما جثم الملعون الشمر على صدر الامام الحسين (ع) سأله بأبي وأمي من أنت؟ أشمر هذا؟.
ليس المقصود هنا إن الامام صلوات الله عليه لا يعلم من الجاثم على صدره والعياذ بالله ، ولكن الامام يوضح لنا شدة تأثير العطش على عينيه حيث وصلت الغشاوة إلى أقصى مراحلها.
ولكن إن كان هذا حال الامام وهو رجل بالغ قوي البنية، فما هو حال الأطفال؟
كانت الأطفال تتساقط مثل أوراق الشجر الجافة مغشياً عليها من العطش ولهيب الصحراء، ترتعش شفاههم الذابلة وتعلو وجوههم البريئة الصغيرة شحوبة وصفرة حيث وصل بهم الأمر إلى مرحلة الظمأ القاتل.
عندما ذهب الامام الحسين (ع) بطفله الرضيع (علي الأصغر) الملقب بعبدالله الرضيع إلى معسكر الاعداء لكي يسقوه قطرات من الماء، فقد أثر الجفاف والعطش في المخيم الحسيني على الحليب في صدور المرضعات وأصبحن غير قادرات على الرضاعة.
فأتى به نحو القوم يطلب له الماء وكان الطفل مغشياً عليه من شدة العطش وشارف على الموت ورقبته ملوية على صدر أبيه قد ابتلع لسانه من الظمأ، فبدل أن يسقوه مايروي عطشه، رماه حرملة بن كاهل الأسدي لعنه الله بسهمٍ مسموم ذو ثلاث شعب أي ثلاثة رؤوس حادة وعادة تستخدم تلك السهام لقتل الخيل الضخمة لاسقاط الفارس الذي يمتطيها، فذبحه من الوريد إلى الوريد، فتلقّى الامام الحسين (ع) الدمَ بكفّه، ورمى به نحو السماء.٤
قال الامام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): فلم تَسقُط منه قطرة.٥
ونعاه الامام المنتظر عجّل الله فَرجَه قائلاً: السلام على عبدالله الرضيع، المرميِّ الصَّريع، المُتَشحّطِ دماً، والمُصْعَدِ بدمهِ إلى السماء، المذبوحِ بالسهمِ في حِجْرِ أبيه، لعَنَ اللهُ راميه «حرملةَ بنَ كاهلٍ الأسديّ» وذويه.
تلك الجرائم فضحت النوايا الحقيقية للمعادين لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليه السلام)، فإن كان للكبار ذنب فما ذنب الأطفال والرضع؟
وأي قانون في السماء أو الأرض يسمح بمنع الماء الذي جعله الله ملك للجميع عن أي شخص؟ فما بالك بالامام المعصوم وهو سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة ونساءه وأطفاله؟
قضية عاشوراء هي قصة إعدام للانسانية بجميع جوانبها وليست مجرد قتل الامام الحسين (ع) بل لها ابعاد عميقة تكشف تلك النوايا الخبيثة المتستره بالدين، ناهيك عن السلب والنهب وانتهاك الحرمات وسبي النساء واعتقال الاطفال وتجريد الممتلكات دون وجه حق من المستضعفين دون رادع!.
فعلاً أُعدمت الانسانية على ارض كربلاء في اليوم العاشر من محرم سنة ٦١ هجرية وخرقت أعظم سفن الله وهي سفينة النجاة العظمى ورحمة الله الواسعة.
------------
اضافةتعليق
التعليقات