الحرمان كلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني التي تترك أثرا سيئاً ومرارة شديدة لدى الانسان، وعندما نسمع هذه الكلمة لأول مرة.. سرعان ما يتبادر إلى أذهاننا فكرة الفقر وأهل الحاجات.. ذلك أننا نملك تصوّر مرسّخ عن معنى الحرمان المادي فقط.. وهذا شيء طبيعيّ في عصرنا الذي غلب عليه الطابع المادي في كل جوانب الحياة، أقول هذا صحيح أن يتبادر إلى أذهاننا فورًا فكرة الحرمان المادي كأول خاطرة لأننا نعيش في عصر عصيب يضج بالمحرومين والمعوزين.
ولكن هل هناك أبعاد أخرى للحرمان؟, نعم.. وأولها بيولوجيًّا؛ فقد يعرف أكثرنا كما أجسادنا تحتاج إلى عناصر غذائية فهي كذلك تحتاج إلى (غذاء روحي) وقد يعد أهم من ذلك الغذاء المادي الذي يمكن تعويضه بعدة عناصر طبيعية، أو صناعية، فالمشاكل، وفقدان الرغبات التي يتعرض لها الانسان قد تهوي به إلى المنحدر وقد لا يستطيع أن يعيش حياته بصورة طبيعية، وقد تسبب له بعض الأمراض الجسدية ايضاً.
وهنالك نوعان من الحرمان، حرمان كلي: هو الذي يتسبب بفقد أحد الأبوين، أو كلاهما.
الحرمان الجزئي: وهو ما نتكلم اليوم عنه؛ الذي يتسبب بفقد تغذية الطفل من الأمور العاطفية، بسبب سوء تربية وتصرف الوالدين.
ويقصد بالحرمان الجزئي: نشأة الطفل بين والديه ومروره بالتجربة العلاقية.. الأولية مـع الأم والأب خلال سنوات الطفولة الأولى.. بصرف النظر عن قيمة هذه العلاقة وايجابيتها ومساهماتها في بناء أسس سليمة لشخصيته ويتلو ذلك انهيار كلي أو جزئي لهذه العلاقات في الفترة التي يكون الولد أو البنت في امس الحاجة للوالدين فيها، وقد يكونان بعيدين كل البعد بمعرفتهما عن الأثر النفسي والأجتماعي للأنسان ولأبنائهما وعلاقته مع الحرمان ومايتسبب بعد ذلك من خسائر.
وكما للأم تأثير على حرمان الطفل من غريزة الأمومة، كذلك الأب له تأثير كبير على شخصية الطفل والبنت بالذات؛ فعلى الأغلب كثير من بناتنا لهن معاناة بسبب القسوة من طرف الأب أو الأخ، بل بعضهن لا يتجرأن بالحديث أمام والدهن حتى.. ودائما ماتأخذ الأم دور الوسيط بين الطرفين، عند تلبية احتياجات الأولاد حيث يُغيب عن الأب أن البنت في مراحل نموها الأولى وفي فترة المراهقة تكون في ذروة احتياجها للأب لأنه الرجل الأول في حياتها وهو قدوتها التي تستمد منه معرفتها، وهو بدوره المغيب يتسبب في حرمان البنت الأمن والأستقرار والسند، هناك فكرة سائدة أن قسوة الأب على البنت حرصا عليها!.
فهو يحرص على عدم اختلاطها مع الأغراب والتحكم في الصغيرة والكبيرة في حياتها حتى لا تترك بعض الخصوصية للبنت في الاختيار أو ابداء للرأي في بعض الأمور التي تخص العائلة.
تتحدث زهراء قائلة: أبي يمنعني من السفر مع والدتي إلى اقاربنا خوفا علي من الأختلاط مع أبناء خالاتي أو عماتي.. وأشعر بنظرة عينيه الحادة تراقبني في الصغيرة والكبيرة وأحياناً يخلق اعذاراً ليوبخني، وتعودت على العزلة حتى عند قدوم الضيوف إلى منزلنا ولا أحبذ لقاء حتى النساء منهم، ولكنني بدأت أختنق وأشعر بالوحدة والعزلة.. وأنني غريبة الأطوار عن بعض أقراني بل بعض زميلاتي تصفني بالمعقدة؛ وتحرص أن تقولها أمامي، فبعض الأحيان أكتب في مدونتي تصرفات عائلتي معي، وأحياناً أمزقها بعدما أهدأ واقول ذلك من حرصهم وخوفهم علي، ولكن هذا لايبرر، إني أحتاج إلى أب يشعر بي ويظهر لي سلوكه العاطفي فقد يقتل في ذاتي ذلك الحرمان البغيض.
ولعل مما يعقد المشكلة ويورث الحرمان لدي؛ هو تدليل أختي وحب والدي المفرط لها فأنا أشعر بأن والدي يعاملها بطريقة مختلفة عني وعن إخوتي، حتى انني في بعض الأحيان لا أرغب بالحديث مع أبي ولا أود لقاءه بعد عودته من العمل.
ذلك ما تشعر به زهراء من الحرمان الأبوي، وكثير من تلك القصص التي تعاني منها فتياتنا، فكثير من الاباء لايمسكون العصا من المنتصف، إما قسوة زائدة أو دلال مفرط، ومن سمات النساء عموما لاسيما البنات: أنهن ضعيفات وعاطفيات يبحثن دائما عن الأمان، وأول من تنشد البنت عنده الأمان هو الأب، وأول مكان تأوي إليه البنت عند شعورها بالخوف في أي مرحلة من مراحل حياتها هو بيت أبيها، ولهذا لابد للأب أن يوفر الأمان النفسي لابنته قبل الأمان المادي، وحينما يقصر في ذلك وتشعر البنت أنها قد افتقدت الأمان عند أبيها وفي بيت أسرتها، ستطلب الأمان خارجه! وقد تتلقفها الأيدي الكاذبة الخادعة الماكرة ذات المنطق المعسول وما أكثرها, وحينها لا يلوم الأب إلا نفسه، بعد فوات الأوان لأنه هو الذي دفع ابنته للانحراف بسبب سلوكه.
تحتاج البنت (المراهقة) بوجه عام إلى الشعور بأنوثتها من الطرف الآخر، والشعور بالاهتمام منه وأيضا بالشعور بجمالها، وتحتاج لسماع كلمات الرفق والتقدير، وتحتاج للمسة الحانية، وتعتبر البنت أباها كرجل من ذلك الطرف, فإن استطاع الأب أن يقدم لابنته ذلك الشعور بعطفه وحنانه الأبوي: أقام عندها خطا للدفاع قويا لا يجعلها هشة إن سمعت كلاما معسولا، أو لُوح لها بلمسة حانية أو نظرة إعجاب.
وقد يتعجب البعض من هذا الطرح، ولكن ما وجدت في سيرة النبي "صلى الله عليه وآله" في تعامله مع بناته يؤكد ذلك، فقد كان يعظم شأن بناته ويشعرهن بوافر حبه وعطفه وكثير من الرويات نقلت لنا عن حبه لابنته فاطمة الزهراء "عليها السلام" كانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسهِ، وكان إذا دَخل عليها قامت إليه وأجلسته في مجلسها. ولماذا لانتعلم من تلك المدرسة النبوية العظيمة، ونترك آثار الجاهلية المتخفية خلف قناع الثقافة والحضارة.
فإن إصرار بعض الآباء على تربية أولاده على الطريقة التي تربى عليها خطأ كبير، فإن الزمان قد اختلف، والعاقل يربي أولاده لزمان غير زمانه، ومهما كانت حالة الذين تربوا بالضرب والإهانة فإن الطريقة خاطئة، وقد ظهرت آثارها في هذه الأجيال التي يبدو عليها الاتكالية والانعزالية وحتى تردي المستوى الدراسي، وهذه نتائج طبيعية لتربية لا يستطيع الطفل من خلالها أن يعبر عن نفسه، ولا أن يبدي رأيه حتى ولو كان صواباً.
من الضروري أن يمد الأب ابنته بخبراته في الحياة ويكون صديقا لها، كون أن هذه العلاقة تعطي نوعا من التوازن النفسي لدى الفتاة، فتكبر وهي متزنة نفسيا، فالمعاملة الحسنة واحترام وتقدير البنت ينعكس بشكل ايجابي على شخصيتها وتقديرها لذاتها، وسيدعم صورتها الذاتية ومن ثم ستكون أقدر على مواجهة المشكلات والأزمات الحياتية.
كما تؤكد التجارب أن الفتاة صديقة والدها: تصبح أكثر قدرة على مواجهة الحياة وأكثر ثقة في نفسها.
ومن أفضل الأشياء التي تعزز الثقة لدى البنت هي علاقة الأب مع الأم والاحترام المتبادل بينهما، لذلك يجب على الأب أن يحب والدتها جيدا، ويُعاملها بشكل جيد، فإن الفتيات يحبون أن يتعامل أبوهم مع أمهاتهم بنوع من الحب والاحترام والرقي؛ لأن أمهم هي القدوة الأولى في حياتهن ونموذج المرأة التي تضحي وتبذل قصارى جهدها من أجل بيتها، فإذا وجدن الأب يتعامل مع الأم بود وحب واحترام، سيترسخ في أذهانهن إيجابيات الحياة الزوجية، ومن ثم يحرصن على تكوين أسرة سعيدة كأسرهن، ولا يضربن عن الزواج، كما تعلن عدد من الفتيات نتيجة لسوء معاملة آبائهن لأمهاتهن.
أما العدل والمساواة بين الأولاد وعدم تفضيل بعضهم على بعض قضية مهمة، فهي من أهم الأمور التي ينبغي أن نوليها الاهتمام البالغ، وقد يكون بسبب ذلك التفضيل كسر نفسية البنت وتفقدها الثقة بجنسها، بل ربما تتنكر لأنوثتها فتفرز المرأة الرجولية، ولذلك لا غرابة أن نجد شريعتنا السمحة تولي هذه القضية عناية خاصة، فقال النبي صلى الله عليه وآله -: "اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي النُّحْلِ، كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ".
اضافةتعليق
التعليقات