على باب المدرسة يقف ذلك الطفل ذو التسعة اعوام، شاحب اللون باكيا بصمت كمن أُخرس صوته، يلتفت الى الاطفال وهم في قمة النظافة والترتيب، نيران خامدة في صدره، وغيمة حزينة تحط على رأسه، كيف يدخل المدرسة من دون ام واب كبقية الاطفال، لم يستوعب الامر بعد، جلس خلف الباب وحيدا، ودموعه تغرق وجهه، لماذا انتزعت الحرب منه احبابه، هل يعود به الزمن قليلا ليحتضن عائلته او يرحل معهم، نظراته الخائفة تبحث عن امان، خفقان قلبه ورعشة لسانه تخبره بعدم رجوعهم، وانهم راحلون الى الجنة..
لم يعد من يهتم به، من يرتب اغراضه و يعطر ثيابه ويسرّح شعره، او حتى يتفقد حقيبته، جلس خلف الباب وبجنبه حقيبته الممزقة ارخى بصره لحظة، بدأ الطلاب يتوافدون على المدرسة يمسكون بيد ابائهم يقبلونهم ويرفعون ايديهم لتعانق وجه ابيهم، سمع همسهم وغمزهم وكلماتهم التي تصفه (مسكين)، فقير، ليس لديه ملابس جديدة مثلنا، تلك الكلمات كانت تجرح قلبه وتدمع عينه، رفع نظره الى السماء فهي الوحيدة التي تنظرا اليه كباقي البشر، لم يتفوه بكلمة واحدة وكأنه ابكم، تجمع الطلاب في باحة المدرسة وينشدون نشيد الوطن، تذكر ان ابيه كان مقاتلا وكان يردد كثيرا هذا النشيد، تقدم خطوة ووقف في اخر الصف، نادى المعلم بطلاب صفه: احمد.. محمد .. جعفر .. طلب منهم ان يدخلوا في الصف وفي الشعبة (ب).
ينتظر الطفل ان ينادوا بأسمه.. فرغت الباحة من الطلاب، لا احد يرغب ان يكون في صفه، يدير طرفه للخلف لعل المعلم ينادي عليه، ماذا ان لم يسمع اسمه، غصة الم وغصة وجع، رغم سنين عمره الصغيرة لكن الحزن غلف قلبه وايامه حتى اصبحت سوداء، ساعة مضت وهو مازال ينتظر اسمه، لا احد غيره واقف ينتظر، علم انه لايرغبون به كطالب بسبب ثيابه ورائحته، خرج باكيا، حاول ايقافه حارس المدرسة واخذ يمسح على رأسه، احتضنه "مهدي" وبكى كثيرا..
حاول الحارس مواساته واخذ يغسل وجهه، تنهد واغمض جفنه الذابل، كل شي باهت في عينه، تحدث معه الحارس وقال له: ساذهب معك الى المدير ونتكلم معه، لا تحزن ياولدي.. مسك بيده بعدما رتب منظره ونثر على ثيابه "ماء الورد" فهو حارس فقير ايضا لايملك العطور الفاخرة و(الماركات)، طرق باب الادارة وطلب من المدير ان يسمح له بالدخول مع هذا الطفل اليتيم، دخل "مهدي" خائفا ترقرت دموعه واخذ يضرب اصابعه ببعضها من شدة القلق اتجه نحو المدير، بدأ كلامه: انني يتيم الاب والام، ليس لي احد، خالتي هي من تكفلت بي لكنها لا تملك الوقت لي لكثرة انشغالها باولادها الخمسة، حتى ملابسي تنسى ان تغسلها، وبدأ الدوام ولم تشتري لي ملابس المدرسة كما كانت تفعل امي من قبل، لا احد يهتم بي، لا احد يحبني.
قام المدير واحتضنه وبكى في مشهد ابكى الحاضرين، دفع المدير مبلغ من المال للحارس وطلب منه شراء كل مايلزمه من ثياب وقرطاسية وطلب منه ان يحلق شعره ويقلم اظافره ويرتب حقيبته، انحنى على الطفل ومسح على رأسه وقال له: انت من الان ولدي وهذه المدرسة هي بيتك، اشار بيده نحو المعاون وطلب منه ان يرفع اسم الطالب مع بقية الطلاب ويكون ضمن المتميزين، ابتسم الطفل وعاد نظره الى السماء شاكرا لله على جبر كسره، وضمد جراحه، وبعد مرور عشرة ايام عاد مهدي الى المدرسة نظيفا مرتبا تعجب المعلمون من تغير حالته فكلما سألوه عن حاله، اشار بيده الى غرفة المدير..
كم مهدي عندنا في المدارس؟ سؤال علينا ان نفكر كثيرا قبل الاجابة عنه!
مهدي ليس اليتيم الوحيد في العراق فقد عرف عنا بلد الايتام، لكن كم مدير عندنا كهذا المدير!!
للأخوة المعلمين.. سيحضر الاباء مع ابنائهم في هذا العام الدراسي الجديد ليخففوا عنهم الرهبة وسيحضر اليتيم الى المدرسة منفردا وقد ارسله الدهر وحيدا، لا تنظروا اليه بعين الذلة والفقر، كي لا يتألم ويبكي مرتين، فطوبى لمعلم جهز الهدايا وضمه الى صدره ومسح رأسه، كما كان يفعل امير المؤمنين (عليه السلام) عندما كان يمر في طريق فرأى غلاماً يبكي فاقترب منه وضمّه إلى صدره ومسح دموعه وسأله عن سبب بكائه، فقال الغلام: جئت إلى هنا ﻷلعب مع هؤﻻء الصبيان ولكنهم طردوني ﻷنّني يتيم اﻷب وقالوا لي: نحن ﻻ نلعب مع مَنْ ليس له أب. فتأثر اﻹمام علي (عليه السلام) وأغرورقت عيناه بالدموع وضم الصبي إلى صدره وأعطاه قطعة من النقود وقال: إذهب وإلعب مع الصبيان فإنْ قالوا لك: أنّك ليس لك أب، فقل لهم ( أن أبي هو علي بن أبي طالب).
السلام عليك يا ابا اليتامى ياعلي .
#عيد الولاية
اضافةتعليق
التعليقات