في صفحات التاريخ خط ذاك الاسم المعطر بأريج الشهادة والتضحية، فبقيت الحروف خالدة في مقدمة الصحف، ورغم ما جرى الا انه لم يجرأ احد ويمحي هذا الاسم، عبيق حروفه تنثر في جوى النفس، حتى تكاد الحروف تصرخ وتقول لك (انها زينب) الاميرة الهاشمية، الاسم الذي ارعب الطغاة وجعلهم عبيدا.
مكتوفة اليد نعم، لكنها رفعت قربانها نحو السماء فكانت قاب الحسين او ادنى، هي اسيرة نعم، لكنها اطلقت حرية القوم الذين يتبعون جهالة بني امية وسرحتهم من العبودية، لم تخف ولم تنكل من تلك المصائب بل تجلدت في الصبر حتى جزع عنها وقال عنها ام الصبر، تطوف حولها المصائب وكأنها خلقت كعبة للرزايا..
هي زينب بنت علي، تلك المرأة التي قطعت المسافات من دون كفيل او معيل، تخبىء دمعها في جوفها فتذرفها في جفون الليل المعتم، فتسقط حسرتها من تلك الناقة الجرداء في الصحراء، تحاكيها السماء وتهون عليها غربتها، يحاميها رأس على رمح رفع، لا يملك جسدا ليحاميها ويجعل حراستها بعينه تلك التي اطفأها الشمر، فهي بعين الله تسير.
كنت اسأل نفسي في استمرار ماذا حصل لها بعد واقعة كربلاء، اين سار بها القوم؟ اي مكان جلست؟ ماذا كانت تقول في طريقها؟ ما يؤلمني اننا نعرف، اسمها وكنيتها وألقابها، ولادتها ونشأتها، زوجها وأبنائها، وماذا فعلت بها كربلاء؟ فبعض خطباء المنبر يكتفون بالمصيبة من دون العروج الى ما بعد الطف وما وقع.
محطات السبي: رحلة السبي من كربلاء الى الكوفة
بعدما قتلوا اهل بيتها وبنينها ورجال قومها، لم يكتفِ القوم بالذبح والحرق فأخذوهم مقيدين في يوم الحادي عشر من شهر محرم الحرام، وركبت على ناقة هزيلة وحيدة تتكفل بعائلة الحسين (عليه السلام) أسيرة من كربلاء إلى الكوفة، وقضيت ليالي وهي تتفقد الاطفال والحريم، حيث ادخلت ارض الكوفة وكان فيها ابن زياد، كان واليا على الكوفة آنذاك وفي محضر من الرجال، وقابلها بخشونة الكلام واظهر الشماتة في قتل اخوتها، فكان غليظ القلب، فخرج أهل الكوفة ينظرون اليهم، فصارت النساء يبكين وينشدن، حتى خطبت في الكوفة خطبتها الشهيرة (لا يا اهل الكوفة...) قبل دخولها إلى مجلس ابن زياد، فقالت لهم زينب الكبرى "أتبكون فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة" وقد أشارت إلى الناس بأنهم هم المسؤولون عن قتل الحسين (عليه السلام) فقالت: "ويلكم أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي عهد نكثتم؟...".
فكانت سلام الله عليها تنطق بلسان ابيها وفصاحته، وعليها علامات الهيبة والوقار، حتى صمت لها كل شيء، فاعادت دور امها السيدة الزهراء (عليها السلام) حينما وقفت وخطبت خطبة فدك، حتى بكى اهل الكوفة عل كلامها، وحزنوا لفعلتهم، لكن لا ينفع حزنهم ولا دموعهم، فضج الناس بالبكاء والعويل.
وعندما أدخلت نساء الحسين وأولاده مكتوفي الايادي وعليهم اثار التعذيب والتعب إلى قصر الكوفة حاول ابن زياد التهجّم على أهل النسوة، والشماتة بما حصل لهم في كربلاء، فقال لها: كيف رأيتِ فعلَ اللهِ بأهلِ بيتكِ؟.
فكان رد السيدة زينب اقوى من شماتته ولم تأبَ منه ومن عساكره، رغم المعاناة التي كانت عليها من الاسر والضرب، فقالت امام الملأ، "ما رأيت إلاّ جميلاً هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم". لله درك يا زينب، ما أعظم صبرك، راضية بقضاء الله مطمئنة بقدره، لا متذمرة منه، فعندها عرف القوم موقفهم من ابن زياد، وسوء فعلتهم وخيانتهم، فبكلامها فضحت القتلة وعرفت الناس بمقام الشهداء وحسن عاقبتهم (وان العاقبة للمتقين).
بين الكوفة و الشام: اقدام تسير وارواح هائمة
محطة اخرى لا تنسى في حياة السيدة الكبرى، فهنا تفقد عزيزة على قلبها، يتيمة صغيرة اتبعها الشوق لابيها، فرحلت سريعا لتعانقه، سار القوم بهم من الكوفة الى الشام، ورؤوس مرفوعة على الرماح طول الطريق تسير معهم، كالبدور تلوح في سماء الاسر، حتى دخلوا دمشق على هذا الحال وادخلوا على طاغية العصر يزيد في مجلس يحفوه الرجال وهم مقرنون بالحبال، وينظرون الى اهل الشام قد بدأت عليهم علامات الفرح والسرور، فعلقوا الزينة وقدموا الحلوى، وتبادلوا التهاني.
فعندما دخلوا على يزيد أمر برأس الحسين فوضع بين يديه، وأخذ ينكث ثنايا الحسين (عليه السلام) بقضيب خيزران بيده، فأثار هذا المشهد في قلب زينب (سلام الله عليها) فقامت وخطبت في مجلس يزيد معلنة انتصار الحسين بدمائه، ونهاية الحكم الأموي وان بدا قويا الان، حيث قالت بكل شجاعة انها تستصغر قدره، ومستنكرة فعلته النكراء وقالت له: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الإماء. أنسيت قول الله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ.
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وامائك وسوقك بنات رسول الله سبابا، قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد الى بلد".
و من خلال هذه الخطبة العظيمة عرف الناس انهم انخدعوا بيزيد حيث قال ان الحسين واهل بيته خارجين عن الدين ومارقين وبعد سماع خطبة السيدة زينب انفضح يزيد وحكومته.
البقاء او الرحيل: مرقد السيدة زينب في دمشق
اثبت عند الكثير من الباحثين أنها توفيت السيدة زينب في سنة 62 هـ، وذكر الكثير من المؤرخين وسير الأخبار بأنها توفيت ودفنت في دمشق، ورأي آخر على أنها دفنت في القاهرة مع انه لا يوجد أي كتاب مؤرخ لمزارات مصر يدل على وجود قبر لزينب في مصر بل دلت كثيرا على قبر السيدة نفيسة، ويرجح البعض إلى ان قبر السيدة زينب في القاهرة هو قبر السيدة زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وذكر النسابة العبيدلي في أخبار الزينبيات على ما حكاه عنه مؤلّف كتاب السيدة زينب: أنّ زينب الكبرى بعد رجوعها من أسر بني أميّة إلى المدينة أخذت تؤلّب الناس على يزيد بن معاوية، فخاف عمرو بن سعد الأشدق انتقاض الأمر، فكتب إلى يزيد بالحال، فأتاه كتاب يزيد يأمره بأن يفرّق بينها وبين الناس.
فأمر الوالي بإخراجها من المدينة إلى حيث شاءت، فأبت الخروج من المدينة وقالت: لا أخرج وإن أهرقت دماؤنا، فقالت لها زينب بنت عقيل: يا ابنة عمّاه قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً وقرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً؟ ارحلي إلى بلد آمن.
ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطّفن معها في الكلام، فاختارت مصر، وخرج معها من نساء بني هاشم فاطمة ابنة الحسين وسكينة، فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجة، فاستقبلها الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري في جماعة معه، فأنزلها داره بالحمراء، فأقامت به أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً، وتوفيت عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة اثنتين وستين هجرية، ودفنت بمخدعها في دار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري بالقاهرة .
فيما تشير روايات أخرى إلى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحل من المدينة، وانتقل مع السيدة زينب إلى ضيعة كان يمتلكها قرب دمشق في قرية اسمها راوية وقد توفيت زينب في هذه القرية ودفنت في المرقد المعروف باسمها والمنطقة معروفة الآن بالسيدة زينب وهي من ضواحي دمشق.
انتهت رحلة العذاب وحان موعد اللقاء مع اهل بيتها (عليهم السلام) عند الحوض لتروي روحها من الحسين وتسعد نظرها من العباس، فبعد طول السفر وقلة الزاد، وعظم الرزايا جعلها الله من اسرع الناس للالتحاق بالحسين عليه السلام كما اعتادت ان لا تفارقه منذ الصغر، فسلام على قلب زينب الصبور ولسانها الشكور ورحمة الله وبركاته.
اضافةتعليق
التعليقات