في لحظة غضب.. كانت الأصوات تتعالى والصراخ يرتفع، حتى لم تعد الكلمات مفهومة، أ هي تهديد.. أم عتاب.. أم رفض مشوب باستغراب؟. كل ما حصل.. أن الابن الأكبر كان يغادر المنزل وآثار دماء تقطر مع خطواته المبتعدة.. تشيعه كلمات السّبّ والّلعن من الأب .. والأم تنحب في زاوية، تلوذ بصمت قاتل وهي تشد على صدرها وكأن قلبها يكاد ينفطر.. في حين الأخوة الباقين لاذوا بإحدى الغرف يرتعشون من الخوف والانهزام.. تحت تهديد الوالد الذي يعدهم برميهم إلى الشارع، إن تفوهوا بكلمة .
صورة قد تتكرر في أكثر من عائلة لا سيما في البيئات التي تفتقر إلى التعليم والثقافة أو الاستقرار الاقتصادي لموارد الأسرة. وإن كانت الأسباب مختلفة والسيناريوهات متفاوتة، لكن العامل المشترك فيها أن الأب عاجز عن احتواء أبنائه وعائلته بالشكل الذي يتيح لهم أن يعيشوا بانسجام وتوافق جميعهم، متحدّين كل الظروف والعوامل التي تهددهم .
(يوصيكم الله في أولادكم) وصية تتجاوز الإرث والحصص.. إلى عدم تضييع الأولاد وضرورة تنظيم ومراقبة المصالح الدينية والدنيوية لهم، على اعتبارها المسؤولية الأولى للأب.
ولا يخفى على الجميع أن هناك مقدمات يجب أن لا يغفل عنها الرجل حين ينوي تكوين أسرة ملتزِمة وأبناء بارّين، أولها حسن التوكل على الله وغض البصر عن المحرمات والعمل لكسب الرزق الحلال الذي لا تشوبه شبهة أو فساد. فإن أثره سينعكس على طبيعة ومزاج وأخلاق الأبناء لا محالة.
ولا يشغلنّ الفكر بالفقر فإن الله سبحانه هو الغنيّ المُغْني عباده المتوكلين عليه عن السؤال والحاجة، بمباركة سعيهم وفتح أبواب الرزق الحلال لهم. (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) والأسرة بجميع أفرادها هي مسؤولية الراعي الأول، وهو الأب. ليس الاحساس بدفء احتضان العائلة للأولاد لوحده مهم، بقدر شعورهم بالانتماء الحقيقي والمستمر لعائلة متحابة متماسكة، والذي يشعرهم بالأمان ويبعد عنهم الخوف من المستقبل وشبح العوز والضياع والوحدة.
احساس الاطمئنان يمنحهم حياة صحية وتوازن عاطفي وقدرة على حل المشكلات التي تعترضهم بشكل سليم دون الاضطرار إلى رمي أحمالهم جميعها على الأب. هي حالة بين الدلال المفرط أو التخلي الكامل عن الأبناء ليواجهوا مصائرهم لوحدهم في ظروف وأحوال هي الأصعب والأشد من كل ما مرّ على الشعب العراقي بتاريخه كله. فليس من المنطق أن يُضيّع الأبناء في هذه الأجواء المشحونة بالمخاطر، إن لم يكن لهم سند وموجّه وداعم حريص كل الحرص على نجاحهم في الحياة.. وهو الأب. (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). فحماية ورعاية الأبناء لا يكون أثره عليهم فحسب.. إنما سيكون الأثر الأكبر للأب المؤمن أولاً ثم أبنائه وأهله . لأن ضياع الأبناء ضياع للأسرة والأب، سواء أكان بالفشل الدراسي أو الضياع الأخلاقي والانحراف أو العقوق .
عندما نفكر بالانجاب، لا يكون تفكيرنا بزيادة عدد أفراد المجتمع، إنما بالحاجة إلى من سيكونون سنداً لنا لأنهم جزء من كياننا ووجودنا وهدف استمرارنا بالعمل والعطاء. نحتاج أن تكون أيدينا مشدودة مع بعض بالحب والرغبة بالاستمرار في مواجهة مصاعب الحياة دون أن نشعر بالمنّة أو الفضل.. لأننا وهم كائن واحد. نحتاجهم أن يكونوا أنساً لنا، وجودهم وضحكاتهم ومشاغباتهم هي مصدر فرح وبهجة لنا. وإن وقفنا هناك يوم الحشر لن يكون هناك ما نخجل منه إثر تقصيرنا في تربيتهم ورعايتهم وتوجيههم ليكونوا مؤمنين فاعلين ومؤثرين بايجابية للحياة والعقيدة والمذهب. فهناك سنُسأل عن الأمانة والودائع التي أودعها الله عندنا..
أأحسنّا حفظ الأمانة والوديعة أم لا؟
اضافةتعليق
التعليقات