تحت سقف المنزل الذي يعج بالصمت الثقيل، تنظر الأم إلى ابنها يوسف بحزن عميق وهي تراقب أيامه تتسرب من بين يديه، ساعات تمر وهو غارق في عالمه الخاص، لا يعي صباحه ولا مساءه، ينهار على السرير مثل جندي أنهكته حرب لا يراها أحد سواه، وحين يغمض عينيه، يصبح أسيراً لأحلام باردة كأنها حطب ينتظر شعلة حياة تضرم فيه النار من جديد كأنه ظل يتعرى من ذاته وبات التوحد مع عزلته هو القانون الوحيد الذي يحكمه، حتى أصبح فاقدا لتوازنه الجسدي والنفسي.
اقتربت منه الأم، تنظر إلى وجهه الذي يحمل إرهاقًا أعمق من سني عمره الشابة، وهزته بلطف وهي تقول:
"ولدي، استيقظ"
لكن صوتها كان أشبه بنداء يغرق في فراغ، كلماتها تخنقها الحسرة وهي ترى مستقبله يتبدد مع كل يوم يمر دون أن يتغير شيء، وفي حين حاولت الأم أن تحتضن حزنها بحب، جاء الأب بنبرة صارخة: "يوسف! استيقظ!"
نهض يوسف بتنهيدة ثقيلة، مليئة بضيق يكاد يصرخ، وقف أمام أبيه يستمع إلى ذات النصائح التي تتكرر يومًا بعد يوم، لكنه كان يكره الطريقة التي تُقال بها،
رد يوسف بصوت مبحوح من الغضب المكبوت: "أبي، لماذا تقارنني بزمنك؟ نحن نعيش في عالم مختلف، أنا لست نسخة منك."
لكن الأب، الغارق في أمله أن يرى في ابنه انعكاسا لحياته الماضية، لم يحتمل الرد، ارتفع صوته، وارتفعت معه حدة النقاش، حتى انتهى الأمر بصفعة مزقت الصمت ودبت الخلاف في أعماق المكان.
فوقف يوسف مذهولا، يحدق في والده بعينين يملؤها الغضب والحزن معا، كان يشعر أن أحداً لا يفهمه، ثم التفتت الأم إلى الأب بنبرة هادئة لكنها مشحونة بالرجاء:
"يا أبا يوسف، صراخنا لن يغيره، ولن تكون القسوة الحل، دعنا نحاول فهمه بدلاً من معاتبته."
أما يوسف، فقد انسحب إلى غرفته بصمت، لكنه كان يعلم أن هذا الصراع لن ينتهي إذا بقي كل طرف يرى الأمور من زاويته فقط.
وهكذا، تمضي الحياة، وتجر المشاهد بعضها، تتكرر القصص بأشكال متنوعة، لكن السيناريو يبقى واحداً، فكل جيل يرى نفسه على حق، يعيش عالمه، ويرفض تقبل النقد أو التوجيه، فالفتى يظن نفسه رجلاً مكتمل النضج، يرى في أي ملاحظة إهانة لرجولته المتصاعدة، فيغلق أذنيه عن كل نصيحة من والده، ويعتبر أن زمن والده قد ولى، أما الفتاة فغالباً لا تستسيغ أي ملاحظة وأي كلمة تُقال تُفسر كأنها انتقاد لشخصيتها أو كبح لحرية التعبير عن نفسها والحقيقة أن جذور الصراع تبدأ حينما يريد الوالدين من أبنائهم أن يحققوا أحلامهم التي لم يتمكنوا من تحقيقها، فهم الأحلام المؤجلة ومرآة لكل ما كانت أرواحهم تطمح إليه، لكن غالبا ما تُفسر هذه النصائح على أنها قيود أو انتقادات، وفي الناحية الأخرى من الصراع الأبناء، فهم يحملون تطلعاتهم الخاصة ومفاهيمهم الحديثة، يريدون رسم طريقهم بأنفسهم، دون أن يشعروا أن حياتهم يتم التحكم بها أو توجيهها من قبل جيل سابق لا يفهم ما يدور في عقولهم وكل ذلك بسبب الحوار المفقود.
وفي هذا المشهد الذي يتكرر يومياً يغيب الحوار، ويصبح كل طرف متمسكا بموقفه، الآباء يرون في نصائحهم حباً، والأبناء يرون فيها تدخلاً أو تقييدا لحريتهم، وجهات النظر تتباعد، ولا تجد نقطة التقاء، لأن الحوار غالبا ما يكون قائما على محاولة إثبات صحة وجهة النظر، وليس على محاولة الفهم المتبادل، وإن صراع الأجيال ليس بجديد، لكنه ليس حتميا أيضاً فيمكن تجاوز هذه الفجوة إذا اجتمع الطرفان على طاولة الحوار، حيث لا يسعى أي طرف لإلغاء الآخر، بل لفهمه حيث يستمع الآباء لشكاوى الأبناء، ويفهم الأبناء مخاوف الآباء.
فالاختلاف بين الأجيال ليس لعنة، بل فرصة لإثراء التجربة الإنسانية، بشرط أن يكون الحب والاحترام هما الجسر الذي يربط بين الماضي والمستقبل، فإن التقبل البسيط من الأهل قد يكون المفتاح الذي يربط الحبل المفقود بين الأجيال، ويعيد الجسر الذي يسمح للقلوب بالتلاقي، فحين يشعر الأبناء أن هناك مساحة من الفهم والتسامح داخل الأسرة.
فإن أبواب السريرة تُفتح لتخرج منها مشاعر وكلمات لطالما كانت محبوسة، إما خجلًا أو خوفاً من عدم التقبل، ففي هذا الزمن السريع يجد الشباب أنفسهم في سباق دائم لمواكبة التطورات إن لم يجدوا دعما وتفهما من عائلاتهم فقد يشعرون بالعجز أو الخوف، مما قد يولد لديهم صراعا داخليا أو حتى عقدة تجاه هذه المتغيرات في غياب التواصل الفعال.
وهنا يكمن دور الأسرة فإن دورها ليس فقط في التربية والتوجيه، بل في فتح قنوات للتواصل والحوار، وتقديم الدعم المستمر فالتربية ليست فرض سيطرة، بل بناء جسور من الثقة والتواصل، والتقبل لا يعني الفوضى، بل يعني الحوار فعندما يشعر الأبناء أن أهلهم يتفهمون اختلافهم ويحترمون رغباتهم، فإنهم سيبادلون هذا التقبل بالاحترام والتقدير وفي النهاية الحب غير المشروط والتقبل البسيط يمكن أن يفتحا أبواب القلوب المغلقة وبهذا، يتحول صراع الأجيال من مواجهة إلى فرصة للتعلم والنمو معا، حيث يلتقي الماضي بالحاضر ليصنعا مستقبلاً مشتركاً مليئاً بالاحترام والتفاهم.
وأخيرا لا بد لنا ما إيجاد صيغة متوازنة للحوار بين الأجيال، لأن القطيعة بينها تعني البدء من الصفر، بينما محاولات التقريب مع بعض الضوابط تكون مقدمة للتقدم .
اضافةتعليق
التعليقات