ببراءته المعهودة سأل الطفل معلمته قائلا: هل تشتاقين إلى مكان قديم كنت تسكنين فيه؟ أجابته: نعم بالتأكيد ياعزيزي خصوصا إذا كنتُ أحبُّ المكان.
فردّ عليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع: وأنا أيضا مشتاق لبيتنا في الموصل! فأنا أحبه كثيرا.
فقالت: ولمَ لا تعود أنت وأهلك إليه؟ فأكثر المهجّرين عادوا إلى بيوتهم.
فأجابها: ولمن نعود ياست؟ أبونا قد توفي وبيتنا هدّمه داعش!!
إنه طفل تركماني من بلدي، من أهالي الموصل.. المدينة التي استوطن بها الارهاب، وبنى الموت بها أعشاشه.
وتستمر الحياة رغم قسوتها ومرارتها في الموصل الحدباء، بين سبي وتهجير وداعش بالأمس وبين اهمال وغرق وحوادث تدع الحليم حيرانا.. وما حادث عبّارة الموت هذه الأيام إلا حلقة واحدة في مسلسل الموت المجاني والذي أبتليت به الأمة.
موعد مع الموت لا يمكن تخطئته أو تجاوزه، فقد كان الضحايا يتوافدون على العبّارة بفرح وسرور وهم لا يعلمون ما يخبأه لهم الدهر من نهاية مأساوية في يوم عيد، الجميع مندفع وقد قطعوا تذاكر العبور لعبّارة (الموت) في مكان ترفيهي على سطح جزيرة.. أرادوا أن يعيشوا لحظات الفرح بكل تفاصيلها، بعد أن مرّوا بالنكبات المتتالية على مدينتهم الجميلة، ولكن هيهات.. فالفرح لم يطل عليهم من بوابّاته المألوفة، بل جاءهم الموت مسرعا ليأخذ كل أحلامهم عبر مياه النهر الجاري فيغرقها مع أجسادهم، وتحقق الموعد الذي لابد منه.
وسواء كان الغرقى ضحايا أم شهداء، فالمسميات لا تعنينا كثيرا في بلد يوزع الموت فيه بالمجان، وسواء كانت نتيجة جشع وسوء ادارة وفساد وتقصير أو لم تكن، لكنها تبقى في النهاية فاجعة كبرى بحجم الوطن.
إن حادثة العبّارة في الجزيرة الموصلية هي كارثة بكل المقاييس.. وبالتالي هي مجس اختبار لكل الوطن الذي يصبح ويمسي على ايقاعات الحزن، إنه يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الفساد ليس له وجه واحد بل أوجه متعددة.. وإذا استشرى الفساد في أمة من الأمم فإن لون الحياة فيها يتحول إلى لوحة سوداء قاتمة، لأن الفساد المستشري لا يدع حجرا على حجر، بل إنه سيخلق فوضى عارمة تلف المكان ويتعذر العيش في وطن ينخر الفساد في كل مفاصله.
لقد عُرف شعب العراق منذ القدم بأنه الأول وفي المقدمة عالمياً في الغيرة والحمية والكرم والشجاعة واغاثة الملهوف ومد جسور التواصل والتعاون..
لكن كل ذلك لن يُخرج عاصمتهم بغداد الحبيبة وأخواتها من المدن الأخرى من ذيل قائمة أسوأ المدن في العالم فسادا ومحسوبيات.
(فالمدينة التي لا يُغرّم فيها من يتجاوز السرعة المحددة بغرامة فورية تُؤدِبه وتثنيه عن الاستخفاف بأرواح الناس، لا تُعد مدينةً بل هي عبارة عن محفل موتٍ مجاني بامتياز).
ونحن _ أيها الأخوة _ قبل أن نلعن متعهد العبّارة، ونلقي اللوم والمسؤولية على زيد وعبيد لننظر إلى أنفسنا أولا، فلا نساهم في نشر الفوضى في بلدنا وفي مناطقنا، ونسيء إليها من حيث لا نشعر.. لأننا حينئذ لن نتخيل أولادنا في المستقبل سيعرفون شيئا في قاموسهم اسمه
(النظام).
فلننشر على مواقع التواصل الإجتماعي كل المبادرات الايجابية التي نراها أمامنا، ولنكن المبادرين دوما لنشر كل ما هو جميل ونافع وفي الصالح العام، لكي تسود ثقافة التغيير على المستوى الفردي ومن ثم على المستوى المجتمعي.
ولنعلم جيدا أن سبب مأساة الموصل وغيرها، أكبر من أن يكون جشع متعهد أو تقصير مسؤول هنا أو هناك، بل هي نتاج ثقافة مجتمعية، وما المتعهد والمسؤول إلا نتاج التربية التي تلقيّاها منذ الصغر.. فلنبدأ بانفسنا أولا ولنكن قدوة للاخرين، ولتكن مأساة الموصل مجس اختبار لنا جميعا كأبناء لهذا الوطن الصابر المُمتَحن... وسببا لتغيير كل قواعد البنيان التي بنيناها على أسس خاطئة، فأدت إلى نتائج كارثية مريعة.
اضافةتعليق
التعليقات