أصوات مرتفعة، دخان متصاعد، صرخات عالية، المكان يضجّ بالعويل، الظلام كان مسيطرا على المكان، وأصوات الاسعاف وهي تسرع نحو بقعة لاترى فيها غير غمائم سوداء تعلو، رائحة الكبريت تختلط مع رائحة الدم فيكون مزيجا ينشر في سماء هذه المدينة..
بين هذه الفوضى هناك أب يبحث بين الركام عن بقايا أفراد اسرته، يهوي عند أول حجرة ويلثم ذي وذاك الحجر وينادي بتلك الاسماء؛ زهراء، عباس، احمد، لا أحد يجيب وهل للموتى من جواب، يخفف عنه الأنين من حوله، وثمة أم تهيل التراب على رأسها تضرب صدرها وتنعى ولدها الشاب الذي كان يقرأ في هذا المكان، الكتاب بعض اوراقه قد احترقت وبقيت جثة ولدها مجهولة تحت الأنقاض، ترتدي فستانا ممزقا وبيدها فستان العيد تقف حائرة لا تعرف اين هو المصير فكل ما تعرفه هو اين رحلت دارهم..
في هذه الأرض تعيش الطفولة خائفة مشردة، ويقتل فيها الشباب، تبكي الشيوخ، وتذرف الأمهات الدموع، في هذه الأرض تموت الأحلام قبل ان تولد، وترحل الطفولة قبل وقتها، بصرخة من ضمير صغير: انقذوا ارضي.. ويبقى النداء مقيدا..
سماسرة الحرب يعرفون كيف يقيدون الحرية ويقتلون صوت الشهيد قبل ان ينطق، اعتادت الأرض على هذه الأحداث فكل عام ومثل هذه الايام تهتز مآذانها بنداء الفجيعة مختلفة عن باقي الأوطان فهي تقدم قربان العيد قبل ان يأتي وتنحر الحياة..
وعلى تراب هذه الأرض تكتحل أم الشهيد بدم اولادها، وعليها تزف الشهادة كعروس في أول ليلتها، يعطر ارضها الكافور، وتبخر السماء، لا أحد يعرف عن اهلها غير تلك العبارات التي يطلقها الاعلاميين والناشطين والهاشتاكات التي تضج في مواقع التواصل، وباقي افراد السلطة يتصارعون على من يتولى الحكم ومن خسر في الانتخابات، يمارسون أبشع الجرائم فقط من اجل المنصب والزعامة، حتى لم نعد نعرف من هو الضحية ومن هو الجاني فكلهم ملائكة؟!
منذ سنوات وأنا لم أعد اسمع ناعيا ينعى او يرسل برقيات عزاء او يشارك في دفن الاجساد ورفع تلك الانقاض وكأن الموضوع اصبح سهلا جدا؛ انفجار.. ضحايا.. انتهت نشرة الاخبار، وإن بلغ عدد الضحايا المئات يبقى رقما قابلا للزيادة ونتوقع اكثر.
هكذا نحن تعايشنا مع الواقع الصعب وإن تألمنا كثيرا لا نملك القرار امام جبروتهم، فتيجانهم من دم العراقي يلوّن شذراته فيصبح ياقوته احمرا، تغرهم سلطتهم فلا يعلمون ماذا تخبئ لهم الأيام، وإن الله على أعمالهم حسيب رقيب، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)..
وفي حديث يظهر فيه حرمة ارهاق قطرة دم واحدة، عن رسول الله صلى الله عليه واله: (لَهَدْمُ الْكَعْبَةِ حَجَرًا حَجَرًا أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ)، (لزوال الدُّنْيَا جَمِيعًا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ دَمِ امْرِئٍ) فكيف بتلك المئات التي سقطت اخيرا في بغداد شهداء محتسبين لربهم، فسلام على العراقي ان استشهد وان جرح وان بقي حياً.
اضافةتعليق
التعليقات