لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني: القسم الرابع
عقدت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية أمسية رمضانية، حيث القى سماحة الشيخ مرتضى معاش محاضرة تحت عنوان: (لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني؟)، ذكر فيها أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات، من خلال الاستلهام من آيات الذكر الحكيم والاعتبار من عاد قوم النبي هود الذين استكبروا بالأرض ببناء الأبراج الشاهقة طغيانا وبطشا لكن ذلك تسبب لهم بالعذاب والنهاية السيئة. فما هي العبر من هذه القصة وكيف نبني حياتنا؟
وفيما يلي القسم الرابع والأخير من المحاضرة:
أسباب نجاة الأمم وتقدمها
ولكي تعتبر الأمم من تاريخ الماضين لابد أن تعرف أسباب النجاة وعدم السقوط في العذاب والمآسي والكوارث، ومنها:
أولا: شكر النِعَم
هذا هو أهم طريق للتقدم والبقاء، فالنبي هود يخاطبهم، (فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأعراف 69.
عندما يعيش الإنسان حالة فقر وضنك ينزعج، لذا يريد أن يعيش في الخير والنِعَم، لكنه لابد أن لا يكفر بالنعم، ولا يكون بطرا حتى يكون ناجيا، فالإنسان الذي يشكر يكون ناجيا في حياته.
ثانيا: قبول النصيحة
لابد لكل إنسان ناصح أمين، ولا يجب أن يكون الإنسان متفردا في رأيه، ولا يكون مستبدا في قراره، دائما يجب أن يكون هناك ناصح ينصحه، والنبي هود قال لقومه:
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) {الأعراف/68}
فأنا الناصح الأمين لكم وأنصحكم وأريكم العواقب، وأريكم النهايات، لابد أن تحافظوا على النهايات الصحيحة، ولا تغامروا في النهايات الخطرة التي تودي بكم إلى الهلاك.
فالأمم تسقط بتمردها على النصيحة وكذلك الأفراد، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش).(2)
ثالثا: الأجر المعنوي
الأجر المعنوي هو الذي يبني الأمم وليس الأجر المادي، وهذا هو منهج الأنبياء (قل لا أسألكم عليه أجرا)، طبعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال (لا أسألكم عليه أجرا غير المودة بالقربى)، المودة تعني المحبة والطاعة لأهل البيت (عليهم السلام) الذين هم طريق النجاة للأمة، لذلك مودتهم هو قمة الأجر المعنوي، فالأجر المعنوي هو الأهم، وعندما تنشغل الأمة بالأمور المادية هذه الأمة تنتهي وتفشل.
قوم هود يقولون للنبي هود إنك تريد أن تسيطر علينا حتى تكون عندك أموال، فيجيبهم:
(لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) هود 51.
فليس كل شيء يقوم على المادة والأموال، هناك أشياء أعظم وأكبر، والعمل الصالح هو الذي قام عليه الصالحون، لذلك الإنسان الصالح العاقل هو الذي يفكر بالأجر المعنوي ولا ينحصر تفكيره في القضايا المادية.
رابعا: الاستغفار والرجوع
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) هود 52.
فالاستغفار دائما يؤدي إلى التقوى، كما ذكرنا في البداية عن أهمية التقوى، يرسل عليكم السماء مدرارا، ويزيدكم قوة، هذه القوة الحقيقية وهي القوة المعنوية، وليست تلك القوة الخاوية التي لم تستطع حمايتهم، (ولا تتولوا مجرمين)، فالإنسان الذي لا يشكر النعم يدخل ويتورط في سلسلة من الانحرافات الكبيرة الطويلة الممتدة تصل به إلى النهاية.
كيف نبني؟
ولكن كيف نبني ما قد لا يوقعنا في تلك الانهيارات والسقوطات التي عصفت بالأمم؟
أولا: البناء بما يحتاج اليه
ماذا يحتاج الإنسان لكي يبني، يقول الإمام علي (عليه السلام):
(مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللَّهَ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لَا يَبْلُغُهُ، وَ بَانٍ مَا لَا يَسْكُنُهُ، وَجَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ)(3)، البناء لابد أن يكون بقدر الحاجة، حتى لا يخرج عن حده، حيث يستنزف الانسان بما يجعله فاقدا لغاياته الجوهرية. فلن يبلغ الانسان مايريد مهما بنى من أبراج شاهقة، ولن تشبعه تلك الأبراج العتيدة، فبرهة ومن ثم يصيبه الملل والضجر والإحباط.
ثانيا: البناء بالعواقب
(مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النحل 117.
بعض الناس يمتلك ثلاث أو أربع أو خمس دور، أو عشرة بيوت ويبني عمارات وسواها، وعنده شركات، لكن متاعه قليل وسوف ينتهي، فلا تتصور ابنك هو الوارث، الله سبحانه وتعالى هو الذي يرث الأرض.
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص 58.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلا ما لابد منه)(4)، يعني البناء بقدر الحاجة، فما يفيد هو بناء الأشياء الحقيقية التي تفيد الإنسان، أي نبني البناء المادي من أجل البناء المعنوي.
ثالثا: البناء بالغاية
فلكل خطوة غاية ومنتهى، ولكل لبنة بناء مطلوب، فالعمر محدود والدنيا قصيرة الأجل، ومابني لم يبنى لما هو مطلوب، وما هو مطلوب لم يبنى له، ولذلك فإن لكل بناء لابد أن يكون هدفا وإلا أصبح عبثا ومضيعة للجهود وتعب بلا طائل.
وعن الامام علي (عليه السلام): (وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لَا يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا مَالًا حَمَلَ وَلَا بِنَاءً نَقَلَ)(6)، وقال الله تعالى في كتابه الحكيم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون 115.
رابعا: البناء بالتواضع
وليس نبني من أجل الافتخار والتباهي على الناس، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من بنى بنيانا رياء وسمعة حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين، ثم يطوقه نارا توقد في عنقه ثم يرمى به في النار، فقلنا: يا رسول الله كيف يبني رياء وسمعة؟ قال: يبني فضلا على ما يكفيه أو يبني مباهاة)(5).
خامسا: البناء بالتقوى
وتطرقنا لهذا الموضوع. فمن يؤسس ويبني على التقوى هذا هو البناء الصحيح. أما البناء الذي يؤسَّس على النفاق وفقدان الغاية والعبث هذا يؤدي به إلى الهاوية.
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة 110.
سادسا: البناء المعنوي
يجب التركيز على البناء المعنوي والمساكن الطيبة، فالبيت الجيد والسكن الحقيقي للإنسان هو الذي يرفل بالأخلاق الطيبة والمحبة والتقوى وطاعة الله سبحانه وتعالى، والمسكن الطيب هو التربية الصحيحة لأبنائنا وتعليمه على الالتزام بالأحكام الشرعية.
أن نبني بيوتنا بهذه الطريقة، نعم نبني ويكون لنا بيت بقدر حاجتنا، ولا بأس أن يكون واسع وجيد، ولكن لابد أن يكون الأساس هو البناء التربوي.
(وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة 72.
المسكن الطيب، يكون جنة في الآخرة، عندما يكون للإنسان مسكن طيب في الدنيا من خلال نفس النموذج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لنا، في قضية الجنة، تقول الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم 21.
المودة والرحمة هو السكن الحقيقي للإنسان، وهذا هو معنى المساكن الطيبة ومعنى البناء المعنوي.
الإنسان يبحث عن الشيء الطيب والحياة الهانئة وهذا لن يتحقق إلا بالتربية المعنوية والبناء المعنوي، بحيث لا تأخذنا المظاهر المادية إلى طريق بعيد عن الله سبحانه وتعالى، وإلا نصبح حالنا حال قوم عاد وقد وصلوا إلى هذه المرحلة من الانهيار.
اليوم الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بالانفتاح والفرج، فلابد أن نستثمر هذا الفرج وهذا الانفتاح لنطبق القوانين الصحيحة التي وضعها الله سبحانه وتعالى لنا من خلال القرآن الكريم، ومن خلال أهل البيت (عليهم السلام)، أحاديثهم ورواياتهم التي تحثنا على البناء المعنوي، على بناء النفس والعمل بالصالحات.
منهج العمل بالصالحات هو من أهم السبل في البناء المعنوي للإنسان، ونعلم أبناءنا على هذه السبل الصحيحة، ونعمل على البناء الحقيقي للإنسان، الذي يجعله يرتقي إلى الأعلى وليس إلى ناطحات السحاب، التربية السامية والبناء المعنوي السامي هو الذي يؤدي بالإنسان أن يرتقي ويتقدم وينجو فيحصل على الجنة التي وعد الله سبحانه وتعالى بها المتقين.
......................................
اضافةتعليق
التعليقات