لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني: القسم الثالث
عقدت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية أمسية رمضانية، حيث القى سماحة الشيخ مرتضى معاش محاضرة تحت عنوان: (لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني؟)، ذكر فيها أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات، من خلال الاستلهام من آيات الذكر الحكيم والاعتبار من عاد قوم النبي هود الذين استكبروا بالأرض ببناء الأبراج الشاهقة طغيانا وبطشا لكن ذلك تسبب لهم بالعذاب والنهاية السيئة. فما هي العبر من هذه القصة وكيف نبني حياتنا؟
وفيما يلي القسم الثالث من المحاضرة:
أسباب سقوط قوم عاد
في قضية النبي هود وقوم عاد، نرجع لها، فهي عبرة للأمم، فعندما نريد أن نتقدم في حياتنا، وقد عشنا الفقر والحرمان، فماذا نفعل؟ نقرأ النماذج في الأمم المتقدمة، أو نستورد نموذجا، كما نفعل الآن، فحياتنا كلها عبارة عن استيراد، الملابس، الطعام، كل شيء نستورده من الخارج، فنقرأ نموذجا معينا، ولكن هذا النموذج الذي نقرأه هل هو نموذج صالح؟، فقضية قوم عاد نموذج لنا حتى نستطيع أن نستكشف النموذج الصحيح في حياتنا.
هناك مجموعة أسباب أدت الى سقوط قوم عاد منها:
أولا: فقدان التقوى
قال الله سبحانه وتعالى في الآية: القرآنية الكريمة ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾.سورة الأعراف، الآية 65،
التقوى هي الحصن يحمي الانسان ويقيه من المخاطر والآفات، فالذي يحصّن المرأة مثلا، أما التقاليد وقد تتغير او تنهار بتغير الظروف المكانية والزمانية، لكن الذي يحصنها هو التقوى، والتورع عن ارتكاب الحرام، هو الذي يجعلها متمسكة بالحجاب.
فالتقوى هي الحصن الذي يحمي الأمة، من خلال التعاون بالتقوى على الخير والتورع عن الحرام، ولكن إذا كانت الامة او الإنسان لا يتورع عن الحرام، واذا سقط فيه ولم يستغفر ربه، ولم يحاسب نفسه، تنهار عنده التقوى، وتبدأ عملية تراكم وسلسلة متصاعدة من الانحرافات، تستمر في الانحراف يبدأ من لحظة انهيار التقوى، بارتكاب الذنوب والمعاصي، والغرور والتكبر والحرص على الدنيا، ومن ثم النفاق وصولا إلى الكفر.
هذا هو أكبر الأسباب في قضية انحراف قوم عاد، لأنهم كانوا سابقا قوم مؤمنين، ولكن عندما رأوا هذه الدنيا طوع أيديهم استكبرا واستعلوا وطغوا في البلاد ووعدوا أنفسهم بجنتهم الخاصة، كما يحدث اليوم في الدول الغربية حيث وصلوا اليوم إلى هذا التقدم الكبير جدا، وقالوا هذه هي نهاية التاريخ، فقد وصلنا الى النهاية وحققنا الجنة الموعودة.
ثانيا: تكذيب الرسل
(قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) الأعراف 66.
إنهم يعرفون أنه رسول مرسَل إليهم، فهو أخوهم، من أقاربهم، وهم يعرفونه جيدا، ومع ذلك كذّبوه، واتهموه بأنه سفيه ومجنون، كما وصفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه ساحر مجنون، هم يعرفون بأنه رسول ولكن يكذبونه بسبب الطغيان.
ثالثا: التزييف
وهذا سبب من أسباب السقوط، وهو التزييف والتضليل واختلاق العقائد، فكل أمة وكل إنسان لابد أن يكون عنده شيء يستند عليه، لذلك لابد أن يقتدي بما جاء من الله تعالى، حتى تصبح عنده شرعية، ولكن اذا أراد أن لا يلتزم بأحكام الله وبالتوحيد وبالنبوة وبالإمامة والمعاد، فإنه يخلق له بنيانا خاصا، بنيانا فكريا قائم على التضليل والتزييف واختلاق الحرام، كما يفعل جيوش كبيرة من الفلاسفة والمفكرين، هؤلاء عملهم فقط اختلاق الأفكار حتى يخدعون الناس بها.
ولهذا نلاحظ أن التضليل والتزييف قوي جدا، في حضارات الطغيان، كما كان يفعل السَحَرة، لكن هؤلاء اعتمدوا الثقافة والعلم مع اختلاف الأفكار والسبل لتزييف الحقائق، أو عن طريق الافتراء على الآخرين، وهي عملية خلق الحقيقة الكاذبة وتحويلها إلى حقيقة، أي أنها تظهر بأنها صادقة ولكن هي جزء من الحقيقة، وهو ما يسمى بالمغالطة.
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) هود 50.
وعملية اختلاق الحقائق هي جوهر التضليل والتزييف الموجود في شبكات التواصل الاجتماعي حيث تؤثر كثيرا خصوصا على أبنائنا الذين يصبحون أبناء شبكات التواصل الاجتماعي، وما تطرحه من سلوكيات ومن قيم، فباتوا يسرقون أبناءنا، فيكونون أبناءهم فكريا عبر الصناعة الثقافية، لذا جزء كبير من الأبناء ينسلخون عن مجتمعاتهم لأنهم أصبحوا أبناء تلك الأمم التي سيطرت على أفكارهم.
كذلك يأتون ويخلقون شريعة خاصة بهم، فيحلل أحدهم الحرام، فهناك بعض رجال الدين بعض الأشخاص بعض الناس يحللون الحرام، ويطرح التشكيك بالشكل التالي (من يقول إن هذا الشيء حرام، ومن يقول بأن الحجاب واجب؟ ومن يقول بأن الخمر حرام)، وهكذا من هذه الأمور يتم طرح الكثير.
الآية القرآنية تجيبهم:
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النحل 117.
ولا يفلحون لأن الافتراء ينكشف بما يحققه من نتائج سيئة ووخيمة، فالبقاء والنجاح للخير والصالح، فكذبهم هو (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
رابعا: التجبّر والبطش ووهم القوة
هنا يحاولون أن يسيطروا بالقوة والسلاح، ويضربون الناس ويسفكون دماءهم، ويبنون البنايات الشاهقة على أكتاف المهمشين، هذا ما فعلته الكثير من الحضارات كالحضارة الفرعونية، وكذلك فإن الرأسمالية الغربية والحضارة الأمريكية بالخصوص قامت على استرقاق العبيد، والعمالة الرخيصة، فالماركات العالمية الموجودة في الملابس هي تُصنع في الدول الفقيرة مثل بنغلادش بأقل الأسعار، فيكون الربح 1000%، وكل هذا على أكتاف الاستعباد، فهذه القوة وهذا الصعود يقوم على أكتاف الناس المظلومين.
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) فصلت 15.
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) هود 59.
وكذلك جاء في الآية القرآنية: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الشعراء 130. فكل هذه المصانع والآلات كما ذكرنا يصنعونها لكي يستخدموها للبطش.
خامسا: الترف
لأن الترف يجعل الإنسان يشعر بالاسترخاء، وعندما يسترخي في حياته بالنتيجة لا يمتثل، ولا يتذكر، ولا يهتم، ولا يتابع ويتغافل ويتناسى، ومن ثم تبدأ رحلة العصيان والغرق في الحرام.
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) الإسراء 16.
سادسا: العدمية
العدمية تعني كما يزعمون (نحن موجودين في هذه الدنيا فقط)، أما غير هذه الدنيا فهو عبث، هذا هو معنى العدمية، النور هو الذي نعيشه في الدنيا، وما بعد الدنيا فهو ظلام، فحياتنا هي فقط ما نعيشه الآن، فالإنسان الذي يفكر بهذا المنطق هو نفس خطاب قوم عاد (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) المؤمنون 37.
هذا الخطاب يجعل الإنسان يعيش بلا حدود، يتجاوز على كل شيء، لا توجد عنده عواقب ولا يفكر فيها، دائما يطغى ويقتل ويكون مجرما (ولا تتولوا المجرمين)، قضية التسلسل المنطقي لانهيار الحضارات تحدث عندما يضلوا الطريق وتكون علاقتهم قوية بالانحراف إلى أن يصلوا للإجرام، والبطش والطغيان.
هذه الأمور تؤدي بالإنسان إلى عدم التفكير بالعواقب. هكذا ينهي حياته، ويتمسك بها كما هي، وهذا هو قمة العبث، وهذا من أسباب انهيار الحضارات، هذه النقطة مهمة جدا وقد تناولتها في محاضرة سابقة. العبث يعني أننا لا نمتلك حياة قائمة على غاية.
اليوم يتسابقون على صنع ناطحات السحاب، ومن هو الذي يبنى الأعلى بين الدول، فما الذي يستفيد منه الناس؟، لا توجد أية فائدة فيها، فقط علامة في المستقبل للطغاة، فإلى أين وصل الطاغية، الله باقٍ وهم زائلون، فهو عبث بلا غاية.
سابعا: الاستهزاء بمنظومة القيم
كذلك الاستهزاء بقيمنا وتقاليدنا، وعقائدنا، كما نلاحظ هذا الاستهزاء الموجود اليوم في بعض المجتمعات، هناك تشكيك وشبهات فيقولون هذا تخلف، فالحداثة الموجودة أنهت هذه القضايا المتخلفة كما يقولون، فزالت هذه القيم، هذا هو منطقهم، اليوم يسمونهم بالمتخلفين أو بتسميات أخرى.
المرأة التي تلبس الحجاب في نظرهم متخلفة، الإنسان الملتزم بالأحكام الشرعية متخلف في رأيهم، أو متزمت، هؤلاء يستهزئون بهذه القيم الدينية والأخلاقية، والإنسان الذي يكون لديه عمل طوعي في سبيل الله، فهذا الإنسان غبي ولا يفهم الحياة في نظرهم، الإنسان الشاطر هو الذي يعرف كيف يجمع الأموال بغض النظر عن المشروعية، فيستهزئون بالملتزم.
ولديهم هدف هو تفكيك كل منظومات القيم الإنسانية الدينية، وتدميرها بشكل تام، حتى يمكنهم السيطرة على الناس، وجعلهم بلا ماضِ، بلا قيم، بلا دين، بلا وجود، بلا أسس، يتلاعبون بالإنسان كما يتلاعبون بالكرة.
(قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) الشعراء 137.
هكذا يكون عنده طغيان لدرجة أنه يتنكر للشيء الذي ارتفع به وصعد به ومكنه، وهذا يعني أن الحضارة قامت على أكتاف أناس هم الذين بنوها، فيأتي الطاغي وينكر القيم، مثل الابن الذي يتمرد على أبيه، باعتبار أن الأب شيء قديم والابن شيء جديد، لكن الآية القرآنية تجيبهم:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) الأحقاف 26. الاستهزاء يقودهم إلى أن تنقلب عليهم الأمور بنكران الحقيقة والكفر بالنعم وانحرافهم عن الواقع.
لذا على الإنسان أن لا يستهزئ بالآخرين، نعم من حقه أن يحاورهم، لأن الاستهزاء هو طريق لأولئك الجاحدين لأنه يعرف في داخل نفسه إنه حقيقة وحق، ولكنه يستهزئ حتى يغطي على ضعفه، وعلى فشله، فالاستهزاء طريقة الضعفاء، يحاولون أن يغطوا ضعفهم وفشلهم.
لابد أنكم لاحظتم التنمر الموجود في المدارس، دائما يتنمرون على الطالب الناجح، حيث يستهزئ به الفاشلون، فلأنه فاشل يتنمر على هذا الإنسان الناجح.
ثامنا: الخواء المعنوي
حينما يركز الأفراد والأمم على قضية البناء الظاهري والأبنية الصاخبة والأشكال المادية، يصبح الداخل فارغا، ليس فيه قيمة، فالإنسان ليس وجودا ماديا، بل الوجود المادي هو مجرد وسيلة لهذا الإنسان، لأن الإنسان هو روح وعقل ونفس وذكر وقيم وفطرة.
فليس من المعقول أن نختزل الأمة والفرد بهذا الوجود المادي، وليس من المعقول أن المرأة التي خلقها الله سبحانه وتعالى بهذا الكيان تختزل وجودها بالشكل النسوي عبر عمليات التجميل، ماذا تعني عمليات التجميل، إنها الخواء المعنوي الذي تعاني منه، فتركز على شكلها الخارجي وهذا خطأ كبير.
فقوة المرأة وقوة الإنسان يكمن في ذلك الامتلاء المعنوي، عند هذه الأمة وهذا الفرد، لذلك نلاحظ كلما تزداد الأمة خواء معنويا تسقط وتفشل، وتزداد فيها الانحرافات والمشكلات والأزمات.
(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) الحاقة 8.
الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين الفارق بين الوجود المادي والوجود المعنوي، (كأنهم أعجاز نخل خاوية)، إنه تشبيه جميل، فليس لهم وجود حقيقي، وهم الذين أنهوا وجودهم بأنفسهم، صحيح إن الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم العذاب، ولكن هم الذين أنهوا وجودهم عندما فقدوا تلك الغاية وذلك الوجود وتمسكوا بالعبث الكبير الذي عاشوه وصنعوه من خلال الأبراج والأبنية.
- القسم الرابع والاخير سيكون تحت عنوان: أسباب نجاة الأمم وتقدمها...
اضافةتعليق
التعليقات