ما أجمل أن تتخذ بادرة العودة، فتمارس أمراً تحبه بعد فترة انقطاع، هي خطوة أولى قد تستثقلها النفس، ولكن ما إن تتم حتى تتلوها خطوات أخرى متتابعة سلسة، اتخاذ قرار العودة قد يستغرق الشخص أعواماً طوالاً تكون فيه العودة فكرة لذيذة تداعب خياله كلما خنقته مشاكل الحياة، لكنه يؤجلها لأسباب منها التكاسل أو خشية الفشل أو ضيق الوقت بسبب سوء إدارته.
كثير من الناس يترك هواياته بعد أن تشغله الحياة بالعمل أو التجارة أو الزواج أو غيره، إنك حينما تمارس أمراً تحبه تكون "أنت" لا تكون فلاناً الأب، ولا فلاناً الزوج، ولا فلاناً الموظف بالهيئة الفلانية، لست فلاناً ابن العائلة الفلانية، ولا فلاناً ذا المستوى المادي الفلاني، تتحرر من جميع القيود والمسميات، لتكون أنت أنت، مستجيباً لصوتك الداخلي الجميل.
إنه الوقت الذي تكون فيه ممسكاً بريشة ألوان، وتفرغ في اللوحة بعضاً من خلجات نفسك، أو مراقباً للعالم من وراء عدسة كاميرا ترصد جمالاً لا ينتبه له الآخرون، أو ممسكاً بصنَّارة صيد متأملاً في الأفق على مد المحيط ترتقب صيداً مجهولاً من عالم لا تراه فوق السطح، أو جالساً بين مقاعد ملعب لكرة القدم متفاعلاً مع حركات اللاعبين ومحاطاً بانفعالات المشجعين وصفارات الحكَّام، أو مبتكراً لطبخة ما تستثير حاسة التذوق لدى من معك، وتثير إعجابهم بمهارتك، أو صانعاً لسيارة عتيقة بتركيب قطع من سيارات الماضي لتبتكر تحفة فنية من مركبات الزمن الجميل.
هو ذلك الوقت الذي ندين به لأنفسنا، الذي ننفصل فيه عن تحديات الواقع وتراكمات الماضي، يستهين الكثيرون بأهمية قضاء وقت يمارس فيه الإنسان شيئاً يحبه أو يجيده، سواء بهدف الترفيه أم لكسب مصدر دخل إضافي، تتضاءل همومنا حينما نشغل مساحات الخاطر بمهارات كتلك، لا يبدو الواقع بالسوء ذاته، ولا العدو بالخبث ذاته، ولا الشريك بالتقصير ذاته، يطول بالنا أكثر في مواجهة تحديات تربية الأبناء، ويتسع صدرنا أكثر لتحمُّل مضايقات زملاء العمل، يكون الهم جزءاً من حياتنا بدلاً من أن تكون حياتنا جزءاً من الهم.
كم من خيانة زوجية كان من الممكن تفاديها لو أن الزوج انشغل عن المرأة الأخرى بصقل هواية ما، وكم ضاقت ذات اليد بأناس كان يمكنهم أن يرتقوا بمستواهم المعيشي بكسب رزقهم من مهارة أوجد الله جذورها فيهم، لكنهم ما رعوها حق رعايتها، بل دفنوها في دواخلهم حتى كادت تختفي، بل كم من أمراض نفسية كان يمكن أن يتفاداها الشخص لو أنه أشغل باله باهتمام صحي في إنجاز أمر يحبه فتتحقق له ثقته بنفسه وإحساسه بكفاءته! وكم من زوجة اختارت الطلاق لا لشيء سوى أن مشاكل الحياة الزوجية في عينها أكبر من حجمها الحقيقي لأنها لم تتمكن من التفكير بعقلانية إذ لم تخرج نفسها من الجو العام بممارسة أمر تحبه يبعث في داخلها الأمل بالتغيير! هذه دعوة لنفض الغبار عن ذواتنا، للعودة لأمر كان، لعل الزمن الذي قضيناه بعيداً عن أنفسنا قد صقل بعضاً من أرواحنا، لنعود لممارسة تلك المهارة بحكمة أكبر وصبر أجمل حتى نسترجع تلك القدرة الجميلة بعد طول انقطاع.
إن كنت تشتاق لنفسك القديمة فعدْ إلى هواياتك.
اضافةتعليق
التعليقات