النفسية البشرية شديدة المرونة والتعقيد، وتتألف من عدد كبير من الآليات المعقدة والمركبة، مع عدد كبير من الدوافع والحوافز والغايات. ولأن الآليات النفسية معقدة ومتعددة، فإن الطبيعة البشرية تعبر عن نفسها بطرق متغيرة، وتعتمد على السياق دون أنْ تكون نبضات ثابتة كما تذهب بعض نظريات الشخصية.
ولا تنبع المرونة السلوكية البشرية من آليات النفسية العامة، بل من عدد كبير من الآليات النفسية المحددة التي يتم تنشيطها، والمتسلسلة في سلاسل معقدة متفاوتة، اعتمادًا على المشكلات التكيفية التي تواجهها. ويستمد البشر مرونتهم النفسية من امتلاكهم لعدد كبير من الآليات الوظيفية المعقدة. وهذا كله يجعل من دراسة الطبيعة البشرية مهمة صعبة، لكنها لا شك قابلة للمعرفة والفهم.
-إنَّ الذكاء والخبرة والثقافة تلعب دورًا جوهريًّا في تحديد رد فعل الفرد إزاء أيِّ محفز، فغرائز الإنسان هي مجرد ميول، ورد فعله ليس آليًّا، بل يستخدم الحسابات العقلية ويفكر بأفق واسع بالمقارنة بالحيوانات. فصناعة الحضارة جزء لا يتجزأ من الميول البشرية. فمن طبيعة البشر إنشاء حضارة، والجماعة التي لا تستطيع تحقيق ذلك تُزاح، إما بالانتخاب الطبيعي، أو بالإبادة.
كما أنَّ الحضارة إنتاج الإنسان، تعيد تشكيله – جزئيًّا - وتؤثر كثيرًا في سلوكه.
-الوعي واللاوعي: الوعي هو الإدراك أو الشعور. وقد اختلف علماء النفس حول اللاوعي، من حيث وجوده من عدمه (أنكره السلوكيون والتجريبيون بحجة أنه لا يخضع للملاحظة المباشرة)، وحول محتواه، كما أفرد فرويد قسمًا سماه "ما قبل الوعي" ، ميزه عن اللاوعي. ولأغراض عملية هنا أعتبره يشمل الغرائز أو الميول الغريزية، والميمات المنسية، والرغبات المكبوتة، والغايات غير المتحققة وغير الحاضرة في الذهن، والقدرات الخاصة والفريدة لدى بعض الناس التي تسمى بالمواهب، وطريقة استعمال اللغة ومفرداتها المحفوظة، والخبرات الفردية والجماعية المنقولة عبر التاريخ، والتي تم تخزينها في الذاكرة العميقة. هذا تعريف مختصر وعام ومباشر. يمكن الكشف عن اللاوعي عن طريق تحليل السلوك، والأحلام، واللغة، وإنتاج المرء الأدبي والفكري، وغيرها.
والذهن البشري ينتج الأفكار بفضل تفاعله مع ما حوله من معطيات بيئية واجتماعية، وبدافع من حاجته للمعرفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمان. فمعرفة الأطعمة الضارة والقاتلة، وأسباب الأمراض، وكيفية بناء أماكن تقي من غضب الطبيعة، وصناعة الأسلحة، والأدوات اللازمة للحياة، ومعرفة الطريق.. كل هذا يتطلب البحث والاستقصاء والتفكير.
لكن ما تفسير استمرار الميمات في أذهان الناس لمدد متفاوتة، تصل إلى آلاف السنين بعد اختفاء العوامل المادية لظهورها؟ فالإنسان لا يتصرف وفقًا لحسابات عقلية صرف، بل إنَّ العقل ليس إلا أحد أسلحته، فهو ليس منقادًا له وحده ولا أساسًا كما أسلفنا، بل هو أداة لتحقيق الرغبات.
لذلك من المستحيل أنْ تكون كل تصرفات البشر "معقولة"؛ فهناك دوافع وراء السلوك لا تقتصر على العقل. ورغم تقدم المعارف والفكر المجرد لم يصبح الإنسان قط عقلانيًّا إلا من الزاوية التقنية، بل واستخدم العقل في تطوير أشكال القهر والتسلط، وابتكار أشكال من الاستغلال والقتل بالجملة بأبشع الأساليب، من أجل أهداف لا يمكن إلا أنْ نعتبرها حقيرة، مثل القومية والعنصرية والاستيلاء على جهد الآخرين، والتسلط لمجرد إشباع الرغبة في السيطرة وإذلال الآخر، كما فعل العكس أيضًا؛ فأنتج أشكالًا من التعاون والتضامن والتعاطف مع المظلومين والمستغلين، بل وحتى مع الحيوانات.
فالتواصل البشري لا يخضع للعقل بشكل أساسي، بل تلعب الغرائز والمشاعر الدور الرئيسي، وهي لا خيرة ولا شريرة. ولا يمكن إغفال أنَّ ما نقوله الآن أيضًا يخضع لهذه الطريقة في التحليل. بل إنَّ الأفكار ليست نتاجًا لنشاط العقل المحض، بل نتاج لتفاعل الناس بكل مكوناتهم مع الواقع.
طبيعة النفس البشرية في ضوء نهج البلاغة للإمام علي
إن محاولة فهم طبيعة النفس البشرية، من ناحية خيرها وشرها، مهمة معقدة، ليست يسيرة. أضف إلى ذلك أن مساعدة البشر على تغيير تلك النزعات والخصال السيئة التي تتصف بها كثير من النفوس هي أيضاً ليست بالمهمة السهلة. كما أن عملية التغيير لا تتم على أسس نظرية بالوعظ المجرد فحسب، إذ لابد أن يقترن ذلك بالممارسة العملية، اعتماداً على الفضيلة والقدوة الحسنة. لكن ذلك لا يقوم إلا القليل من البشر، منهم إمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، حيث يتضح هذا من خلال خطبه ووصاياه وكتبه، التي تجمع بين الوعظ المجرد، والممارسة العملية، متمثلة بموقعه في قيادة الأمة الإسلامية، التي أعطته زخماً عالياً في الإحاطة الواسعة في فهم طبيعة النفس البشرية.
المراد من طبيعة النفس البشرية
طبيعة النفس البشرية، هي السجية والخليقة التي جُبل عليها الإنسان. والطبع في علم النفس هي مجموعة مظاهر الشعور والسلوك المكتسبة والموروثة التي تميز فردا ً من آخر. وهذه الطبيعة تختلف في تكوينها وتتلون من نفس إلى أخرى، حتى في النفس الواحدة، فمنها الخيرة، النقية، البريئة ومنها الخبيثة، الشريرة، الرديئة. فالطبيعة، إذن، تمثل السلوك الظاهري للإنسان، وهي الصفات المميزة لشخصية الفرد. غير أن هذه الصفات والسمات، تتجسد بها الأفكار الداخلية للإنسان، ومشاعره وأمانيه، التي تسمى سريرة الإنسان، وهي ما يضمره هذا الإنسان وما يكتمه وما يحتفظ به في داخله، في باطنه من خير وشر أو خبث ورداءة، أي أنها تمثل باطن الإنسان وإذا صلحت السريرة، استقام الإنسان، أما إذا فسدت السريرة، تخبط الإنسان وفسدت النية. لذا نجد الإمام يمدح ويثني على الذي صَلَحَت سريرته، وحسنت خليقته: "طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصَلَحَت سريرته، وحسنت خليقته".
طوبى: الحسنى والخير.
ذل في نفسه: ترك الزهو والكبرياء.
وطاب: زكا وطهر.
كسبه: مورد رزقه.
والمراد: حسنت نواياه، فهو لا يضمر لأحد شراً. كما يؤكد الإمام أن حُسن الخلق أفضل صاحب يصحبه الإنسان. هذه الخصلة، ضمن مجموعة خصال ذكرها عليه السلام : "ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحُسن الخلق، ولا ميراث كالأدب ".مما سبق، نجد أن أمير المؤمنين قد أوضح بجلاء، العلاقة التي لا تنفصم بين باطن الإنسان وظاهره. فتصرفات الإنسان وأفعاله وسلوكه هي انعكاس لأفكاره ومشاعره وأمانيه، وما يكنه في نفسه، سريرته، فيقول: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته". إذن هذه العلاقة الوثيقة، هي بين الجزء المخفي لسلوك البشر، سريرتهم، متمثلا ًبدوافعهم واحتياجاتهم النفسية، وبين الجزء الظاهر، العلني، وهو تصرفاتهم وأفعالهم. فالدوافع المخفية، إذن، هي التي تشكل المحركات الرئيسية لسلوك الإنسان، من أفعال حميدة، وتصرفات مشينة. وتتجلى علاقة الباطن بالظاهر، والداخل بالخارج، في عملية إصلاح الإنسان لنفسه وسلوكه بأداء ما كلفه الله من أوامر ونواهي، الذي سيكون باعثا ً نفسيا ً لمنعه عن المعاصي، التي بدورها ستنعكس في أسلوب التعامل مع الآخرين. هذا، ما يشير له الإمام في القصار من كلماته: "من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته، أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ" .
إذن، طالما تكون المقدمات صحيحة، التي تدعو للفضيلة والعمل الصالح، فإنها بالتأكيد ستؤدي إلى نتائج صحيحة، سليمة أيضا ً. هذا يعني، أنه كلما كانت عقيدة الإنسان سليمة ونواياه حسنة، محبا ً للخير، ابتعد عن الرذيلة والشر والأنانية، وعن التكالب على الدنيا، وابتعد أيضا ً عن الخداع والغش والعنف والكراهية والحقد والحسد ونحوها.
اضافةتعليق
التعليقات