التقت مجموعة من عضوات جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) وذلك في النجف الأشرف بتاريخ 21/4/2022.
حيث بدأ سماحته الحديث بالآية الشريفة: أَفَلَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها[1].
وأكمل: هناك اكتشافان غيّرا في السنوات الأخيرة طريقة تفكير العلماء تجاه الهندسة البنيوية لهذا الانسان؛ الهندسة الإلهية التي هندس الله عليها هذا الكائن العجيب، وكلا الاكتشافين حديث جدا، ومما ينفعنا طرحهما على ضوء هذه الآية الشريفة.
اللامركزية في أجهزة البدن
الاكتشاف الأول: سابقاً كان الناس يتصورون أن المخ هو القائد الأوحد للبدن بكل تفاصيله وأنه الموجّه الوحيد للبدن بكل أعضائه، فهو الحاكم الذي يسيّر الأمور كلها وإن كان على منتهى الحكمة والدقة لكنه كان يتصور أنه المتفرد باتخاذ القرارات وأن جسم الانسان يعتمد منهجاً مركزيا في قلبه وكليته وكبده ورجليه ويديه وما إلى ذلك من الأعضاء والأجهزة. لكن الاكتشاف الحديث أوضح أن هناك لا مركزية كبيرة في جسم الانسان وأنه إذا هاجم فايروس أو ميكروب معين جسم الإنسان، كورونا مثلاً، أو أن سهماً أصاب جانباً من الجسم أو احترقت أطراف الأصابع، فإن الخلايا المحيطة بذلك العضو المصاب تبدأ فوراً، بحسب آخر الاكتشافات العلمية، بعملية التنسيق للهجوم حتى قبل أن ترجع للمخ، فتقوم بتوزيع الأدوار فيما بينها وتحاصر العدو دون إبطاء كما ترسل إلى باقي أجهزة البدن القرارات المطلوبة منها للمساعدة في صد الهجوم.
بمعنى أن هذا الهجوم المزدوج والمضاعف على هذا الميكروب أو الفيروس أو أي دخيل آخر، لو اقتضى إرسال الأوامر للقلب لكي يضخ كمية أكثر من الدم أو أن لا يضخ، فإن هذه الخلايا تتصل بالقلب مباشرة وليس إنها عبر المخ تتصل بالقلب ليوجّه إليه الأوامر! بل إنها تتصل بالقلب وترسل الأوامر إليه والقلب بدوره يستجيب، وكذلك تتصل بالكلية أو الكبد وغيرهما من أعضاء الانسان كلما اقتضى الأمر، هذا هو آخر الاكتشافات العلمية التي تثبت أن هناك لا مركزية في بدن الانسان.
ولكن يبرز هنا سؤال عن المخ وأنه ما هو دوره؟
الجواب: ان دوره المرجعية النهائية، أي انه لا يتدخل إلا لدى الحاجة وذلك لأن النظام هو الذي يحكم ويسري، وهو نظام منضبط الكل يعرف دوره فيه ولا داعي لأن يتدخل المخ في كل أمر، بل إذا عجزت هذه الأجهزة والتي تسمى بالخلايا، (وكل خلية هي دولة)، إذا عجزت هذه الخلايا أو الكريّات البيض وارتبكت فعندئذٍ ترجع للمخ، إذن هي مركزية ضمن لامركزية.
فهذا هو الأمر الأول الذي اكتشف والذي قد يلقي الضوء على مايجب أن نصنعه في أنشطتنا الاجتماعية.
إن المدرسة الشيوعية تذهب للمركزية المطلقة، والمدرسة الفوضوية تذهب إلى اللامركزية المطلقة التي تصل إلى حد الفوضى، وهناك مدارس أخرى بين المدرستين ولها عرض عريض ودرجات.
والذي يبدو ان أفضل مدرسة والتي تبنّاها السيد الوالد في كتابه: الفقه الادارة، وكذلك في كتب أخرى، هي الأمر بين الأمرين، يعني مركزية ضمن لا مركزية، بمعنى أن تربوا بناتكم وأولادكم والأعضاء في الهيئة والمؤسسة أو في أي جمعية أو منتدى ونقابة واتحاد، وتعطوهم ضوابط ثم تفوضون لهم الصلاحيات، دعوهم ليكونوا هم الذين يديرون العمل، كما يصنع المخ في المثال السابق، أي لا تتدخلوا إلا عند الطوارئ، مثلما يفعل المخ، وليس في كل كبيرة وصغيرة، ان الأب أو الأم أو المدير إذا تدخل في كل شيء فان الأولاد والأعضاء سيتعودون على الاتكال والاعتماد عليكم.
القلب هو مركز العقل والفكر
الاكتشاف الثاني: الذي اُكتشف حديثاً، هو الذي تشير إليه الآية الكريمة بوضوح، لكنها كانت مثار استغراب، ولذا حملها العلماء على المجاز لأنهم لم يفهموا كيفية خلق الله وهندسته للبدن، الآية الشريفة تقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها[2]، والفقه هو الفهم والفهم مهمة العقل ولكنه ليس فيما يبدو وحسب العلوم السابقة مهمة القلب، بل القلب مركز العاطفة، والعقل مركز الفكر والفهم والعلم والفقه، لكن هذه الآية تقول: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها والآية الأخرى التي تلوناها في بداية البحث تصرح بـأَفَلَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها[3].
إذن الله تعالى حسب ظاهر الآيتين ينيط الفقه بالقلب وينيط التعقل أيضاً بالقلب، في الآية الأولى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، والآية الثانية: لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، فمسؤولية القلب التعقل والفهم، لكن العلماء كانوا يحملون ذلك على المجاز، يعني يراد بالقلب باطن الانسان، لكن العلم الحديث اكتشف أخيراً دقة الآية الشريفة وأنَّ المعنى حقيقي وليس مجازي، بمعنى أنه لاشك في أن المخ والدماغ له موقع القيادة بالشكل الذي ذكرنا ولكن الذي يقود هذا القائد هو القلب، القائد ظاهراً هو المخ، واقعاً هو القلب، ولذا تقول الآية: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، ولم تقل لهم أدمغة أو أمخاخ أو مخ يعقلون به.
وإجمال الكلام: ان العلماء اكتشفوا وجود خلايا في داخل قلب الانسان، هذه الخلايا هي التي تقوم أولاً بإرسال الاشارات إلى المخ، ثم عندما ترسل هذه الخلايا الاشارات إلى المخ، يفرز المخ مواداً كيمياوية تحمل الرسائل إلى إنحاء الجسد وتكون بمنزلة القرارات كما اكتشفوا أيضاً أن كل خلية من خلايا القلب تتضمن أرشيفاً كاملاً يحتوي على كافة المعلومات التي ترتبط بهذا الانسان، وهكذا فان القلب مستعيناً بالمعلومات الموجودة فيه يرسل اشارات للمخ، واستند العلماء إلى تجارب كثيرة اكتشفوا منها ذلك ولسنا الآن في مقام التفصيل، ولكن لا بأس بان نشير إلى بعضها:
فمثلاً طفلة توفيت وعمرها 3 سنوات في المستشفى وكان أهلها قد أجازوا للطبيب والمستشفى أن يستخرجوا قلبها فور وفاتها، ولـمّا يمت القلب بعد كاملاً، وذلك بأجهزة حديثة متطورة تحافظ على القلب بدرجة حرارة تحت الصفر، بعد ذلك زرعوا قلب هذه الطفلة في طفل عمره 9 سنوات كان يعاني اختلالات في قلبه، هذه الطفلة كانت قد تعرضت لحادثة الغرق، إلا ان الغريب انهم وجدوا هذا الطفل أضحى يخاف من الماء بشكل عجيب مما يعني أن حادثة غرق الطفلة ومشاعرها آنذاك سجلت فوراً في القلب، وعندما نقل قلبها للطفل الآخر كان احساسه تجاه الماء كإحساس تلك الطفلة لحظات الغرق، ومن الطبيعي ان هذا وغيره أصبح محفزاً للعلماء كي يجروا تجارب كثيرة ليكتشفوا ما الذي يصنعه القلب في بدن الانسان، والذي ظهر لهم إجمالاً أن القلب يرسل اشارات كهرومغناطيسية إلى المخ تحمل المعلومات والأوامر أو النواهي، ثم ان المخ ثانيا يرسل اشارات كهرومغناطيسية إلى البدن، وذلك يعني القلب أولاً ثم العقل.
هناك إذن باختصار: خلايا معينة اكتشفها العلم الحديث وهي قليلة جداً في قلب الانسان هي التي تصدر الأوامر أولا تجاه كل موقف ينبغي أن يتخذه المخ بالنسبة إلى هذه المملكة المسمات بالبدن.
من هذا نكتشف ان ظاهر ما نفهمه من الآية الشريفة لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، ولَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، صحيح، ومن هنا نكتشف أكثر فأكثر أهمية موقع القلب ونعرف مثلاً أن مجالس الامام الحسين عليه السلام ومحبته التي ترتبط بالقلب، ولماذا ورد تأكيد كبير ومذهل في الروايات على كل ما يترشح عن القلب من عاطفة مشبوبة ومن مظاهر وشعائر، مثل ما ورد من أنه قال ابن طاووس رُوي عن آل الرسول أنَّهم قالوا: مَنْ بَكَى وَأَبْكَى فِينَا مِائَةً فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى خَمْسِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى ثَلَاثِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى عِشْرِينَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى عَشَرَةً فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ بَكَى وَأَبْكَى وَاحِداً فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ تَبَاكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ[4].
إن العاطفة تهندس اتجاهات القلب وان إشارات القلب المرسلة إلى المخ ستكون على ضوء تلك اللمحات العاطفية، وإن المناسك والشعائر دورها الأول توجيه القلب، ومن ذلك المشي إلى زيارة الإمام الحسين .
إن البعض يقول: لنفكر ولنطالع، فالخير كل الخير في العقل؟ كلا.. لا يكفي ذلك لأن المخ يحتاج إلى يحدد له اتجاه البوصلة ويوجهه، من الذي يوجهه؟ القلب، والقلب يتأثر بالحب والعاطفة والشعائر.
ومن هنا ينشأ دور (القصة) الفاعل في حياة الأمم؛ لأن القصة تحرك القلب أولاً وتوجه العقل ثانياً، ولذلك نجد ان القرآن الكريم امتلأ بالقصص، والمشكلة اننا نحن في حقل القصص ضعفاء أيضاً، ولقد سيطر الغرب على العالم فيما سيطر، عبر القوة الناعمة وإحدى مفرداتها محاولة التحكم في القلوب عبر آليات كثيرة، وإحدى مفرداتها القصة القصيرة، القصة البوليسية، الخيالية، أنواع القصص المعروفة، هذه القصص تباع بعشرات ومئات الملايين كما تعلمون.
بل لاحظوا حتى جرائدهم وكتبهم الرصينة وليس المبتذلة وقد طالعت الكثير منها، فان أحد مفكريهم لو كان له بحث سياسي أو اقتصادي معمق فانه يبدأ البحث بقصة. لأنهم فهموا هذه المعادلة، فهموا بأن الإنسان ليس الذي يوجهه أولا وبالذات هو عقله وفكره وعلمه بل الذي يوجهه أولاً وبالذات هو قلبه وعاطفته وحبه وما أشبه ذلك، ولذلك نرى مثلاً ان مجالس الإمام الحسين عليه السلام مبنيّة على الشعر، الشعر أولاً يهز القلب، ثم يوجّه العقل، وهذا كله مما يعلمنا المنهج الصحيح، المنهج الذي لم نقدّره حق قدره، ولذلك تجدون مثلاً ان الشيعة كانوا تاريخياً أقوياء في الشعر، لكن الشعر الفصيح في الفترة الأخيرة بدأ يذبل ويضمر ويخبو بريقه ولذلك لا نرى قامات شعرية شامخة الآن إلا بشكل قليل، والأمر في الأفلام والمسرحيات والرسوم وما أشبه ذلك من هذه القضايا، اسوأ.
والحاصل: اننا إذا عرفنا أن المخ يخضع للقلب، وعرفنا أن القلب يتأثر بالعاطفة، وبالأشكال والمناسك والشعائر، فنعرف عندئذٍ إحدى الطرق على التأثير على العقل البشري.
وإذا انتقلنا إلى حقل موازٍ فسنجد ان الشبهات الآن كثيرة جدا، وهي تبدأ من التوحيد والربوبية ولا تنتهي بالأخلاقية، وهنا نجد ان البعض يأتي ليعالج الشبهة بالمنطق لكن كثيراً من الناس لا يفهمون المنطق بل يتأثرون بالعاطفة، فيجب التأثير على عاطفته أولاً ثم على عقله، وقد سبق ان الإنسان ليس هو ما تصنعه أفكاره بل يوجهه بالأساس قلبه ولذا نجد ان الأعداء عرفوا بيت القصيد وبدأوا يشنون الهجوم المركز المتنوع الأبعاد نحو كل الشعائر، مثلا لماذا تقيمون المجالس وتتركون الفقراء؟، لماذا تلبسون الأسود؟، لماذا تذّهبون القباب؟ وما أشبه ذلك.
إن أكثر الناس بعواطفهم، وهذه الشعائر والمناسك توجه العاطفة ولذلك نجد مثلاً ان الانسان عندما يدخل المسجد الحرام وخصوصاً أول مرة، فانه بمجرد ما يشرف على الكعبة من جهة الصفا والمروة أو غيرهما يهتز اهتزازاً لا مثيل له، مع أن أفكاره لم تتغير ولا علومه ازدادت حول الكعبة، بل مجرد النظر! وهذا النظر أثّر في القلب فوراً وبقوة ومن ثم على العقل والفكر، ولذلك أيضاً منعت الشريعة الاسلامية النظر إلى الرجل أو المرأة لأنه يؤثر على القلب ويلوّثه أولاً ثم يؤثر على العقل ثانياً.
فهذه هي النقطة الأولى وهي بإيجاز أن تهتموا بصناعة القلب السليم إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ[5] وهذا هو الحقل الذي كنا ماهرين فيه ولكنهم يريدون أخذه منا، نحن ببركة الإمام الحسين وفاطمة الزهراء وأمير المؤمنين ماهرون بفن الدمعة والعَبرة وهي التي حفظت لنا العِبرة أيضاً، هذا الذي حفظ لنا ديننا وحفظ لنا أطفالنا، ففكروا وخططوا، فانكم كثيرا ماتفكرون بالعمل الثقافي وهذا صحيح ولازم ولكن الأصح ان تفكروا بعمل ثقافي وتربطوه بثوب عاطفي أو اجعلوه مضمخاً أو ممزوجاً بالعاطفة، ليكن عمقه العاطفة وظاهره العاطفة، ومن الأدلة على ذلك انكم تلاحظون ان الذين أسلموا وتشيعوا كثير منهم هزّته وجذبته أولاً القضايا القلبية، فخذوا أنتم هذا الخط وامشوا على ضوئه.
فهذا هو المحور الأول أن نهتم بتشكيل القلوب أو صناعة وبناء القلوب، المحور الثاني أن نهتم بالعقول والأفكار.
عن مقومات العقل
وللعقل مقومات كثيرة، نشير إلى مقومين:
التفقه
المقوم الأول: هو (التفقه)، فإن قوام العقل التفقه، المشكلة فينا نحن المسلمين أن منسوب التفكير فينا قد انخفض، والغرب تقدم في هذا الحقل كثيرا وحتى بدأ يغزوننا حتى في تخصصنا، وفي الحوزة العلمية نتميز بالفقه والأصول والكلام وبعض الفلسفة مثلا، الآن هناك جامعات وكليات في الغرب متخصصة في الفقه والأصول حتى أن بعض أصدقاءنا هنا وفي الخليج درس عند بعض هؤلاء في لندن، أحدهم[6] لعل عمره 80 سنة وهو معروف، ترجم كتاب كفاية الأصول الذي هو من أعقد كتبنا الأصولية إلى اللغة الانكليزية ترجمة دقيقة وهذا الصديق الذي درس عنده يقول لا أستبعد أن يكون مجتهداً!! فهو يحاولون ان يجاروننا في تخصصنا أيضاً!.
إن التفقه إذا دخل في الاقتصاد تقدم الانسان الاقتصادي وإذا دخل في السياسة تقدم الانسان السياسي وكذلك إذا دخل في علم الادارة أو النفس أو الاجتماع أو الحقوق والقانون وعلم فلسفة التاريخ وغير ذلك. وللسيد الوالد كتاب بإسم: فلسفة التاريخ. بالتأكيد اطلعوا عليه، حيث يتحدث عن الفلسفة الكامنة وراء حركة التاريخ، والتي نستكشف عبرها المستقبل، فلسفة التاريخ وعلم المستقبل كتب الغرب كتبا عنهما كثيرة. ولكن نحن كم كتبنا حول ذلك؟
إن العقل مسؤوليته الأولى التفقه، ونحن مع الأسف ابتعدنا عن التفقه كثيرا، وتتمة لحديث أسبق مع الأخوات الفاضلات أؤكد مرة أخرى على أنكم في مركزكم وجمعيتكم المباركة حاولوا أن تذهبوا وراء التخصصات، فإضافة إلى القسم العام الجماهيري، يجب ان يوجد قسم آخر تخصصي، مثلاً، لتكن بعضكن متفقهة في علم الاجتماع أو النفس الاسلامي فان هناك عشرات بل مئات الروايات في علم الاجتماع والنفس والادارة.
نحن مشكلتنا أننا غير متفقهين ولذا نحن عالة وعيال على الآخرين فلتصدر منا كتب يكون الغرب متلهفا عليها، هكذا فلنكن، اتعبوا على هذا الكتاب عشر سنوات طالعوا وتشاوروا وانتجوا كتابا هكذا، ومع الأسف فان حوزاتنا لم تنصرف بالشكل المطلوب إلى هذا الحقل فهي عموماً تهتم بالفقه والأصول لكنها قلّما تتصدى وتتفقه في علم الاجتماع والادارة والنفس هذا لايزال قليلا.
جزء من المسؤولية يقع على أعناقكم، فالأمر الأول هو التفقه.
التطور والإبداع
المقوّم الثاني: الذي هو شديد الصلة بالأمر الأول هو التطور والابداع، فان من دون التطور والإبداع يسير الإنسان / المؤسسة / الشركة / الحكومة والشعب نحو التراجع والتقهقر، وفي دراسة استعرضت الشركات العالمية الناجحة طوال العشرين سنة الأخيرة اكتشفوا بأن الشركات الناجحة على مستوى العالم والتي تتلاعب بالمليارات والتي قد تتجاوز قيمتها السوقية مئات المليارات كميزانية دولة، تبين أن 85 بالمئة من أن أنجح الشركات طوال العشرين سنة الأخيرة إما ماتت وإما تراجعت إلى الصف الثاني!!
والمعادلة هي: أن تبقى الشركة ناجحة ليس شيئاً سهلاً، أن تبقوا على القمة ليس سهلا، أن يبقى الخطيب على القمة ليس شيئاً سهلاً، لأن العالم يتحرك ويتطور بسرعة والثقافة تنتشر والعلوم تزداد، فإذا أراد الخطيب أن يبقى على القمة عليه ان يطالع كثيراً ويفكر كثيراً، السيد الوالد رحمه الله كان يقول: انني ألتهم الكتاب التهاماً!!. كالجائع الذي يهجم على الطعام ويلتهمه.
إن يصل الانسان إلى القمة أمر صعب لكن أن يبقى على القمة أمر أصعب، أنتم الآن لديكم جمعية ناجحة وقد وصلتم ولله الحمد إلى درجة من النجاح، ولكن ان تبقوا على هذا المستوى صعب جداً، وان تصعدو إلى قمة أعلى ثم تبقون على تلك القمة الأخرى أصعب.
الميتافرس
ومن نماذج التطور العجيبة التي تشكل تحدياً كبيراً مذهلاً لنا جميعاً الميتافيرس، العالم الآن يدور حوله، ويقال ان عشرات المليارات من الدولارات وأكثر خصصت لتطوير هذا العالم الافتراضي، ميتا يعني ماوراء مثل ميتافيزيقيا أي ماوراء الفيزياء ميتافيرس أي ماوراء العالم، العالم الافتراضي الموازي، هذا عالم جديد، نحن بعيدون عنها، هذه العوالم الغرب الآن يسيطر عليها والمشكلة اننا بعد سنوات طويلة نتعرف عليها وبالكاد نخطط لها! اننا نفكر فيها عند شيخوختها وهم حينذاك ينتقلون إلى شيء آخر أعظم، فمن الآن فلنفكر ولنلحق بهم على الأقل ولنخطط.. فهذا هو عمل العقل والتفكير.
الميتا فيرس اجمالا عالم افتراضي حقيقي، فأنتم عندما تدخلون على اليوتيوب ترون مشاهد ثنائية أي صوراً ثنائية الأبعاد ومنذ زمن توصلوا إلى تثليث الأبعاد عبر آليات ومنها نظارات خاصة تريكم الصور ثلاثية الأبعاد، والآن تطور هذا في الميتافيرس فكل شيء أضحى مثل العالم الحقيقي، يعني عندما تدخلون إلى الانترنت فانكم لا ترون فقط شيئاً ثلاثي الأبعاد بل تلمسون أيضاً! وقد تذوقون أو تشمون.. فالحواس الخمس كلها تجد مجالاً لها هنالك!
فمثلاً أنتم الآن جالسون في النجف وبعض أقربائكم فرضاً قد يكون في أستراليا فتدعونه إلى مطعم في المدينة المنورة أو كربلاء المقدسة، أنتم في النجف والآخر في أستراليا والمطعم في كربلاء، وبالفعل تشعرون بأنكم تأكلون، تحسون بأنكم فعلا في مطعم، هذا شيء عجيب.. وهو مدخل كبير إلى الفساد أيضاً، فهو أكثر من النظر إلى صور على الانترنت بل كأنه عالم حقيقي وهذا هو الخطير في الأمر.. وهو الفرصة لنا لو أحسنا استخدامها في نفس الوقت.
موطن الشاهد أنه عندما نقرأ ونطالع لنحاول أن نستبق الزمن، وعلى الأقل لنحاول أن نلحق بالزمن، عنذئد نكون على مستوى التحدي ويمكننا أن نحافظ على الجيل الموجود ولكن إن بقينا على هذه الحالة فاننا سنخسر حتى نقاط قوتنا الموجودة الفعلية.
وملخص الكلام: لدينا قلب ولدينا عقل، في معادلات القلب نحن ماهرون فإيانا أن نتراجع، بالعكس لنتمسك بكل شيء يرتبط بالشعائر والحب والعاطفة ضمن الأطر التي حددها مراجع التقليد العدول، وكذلك حب الوالدين، وفي الرواية: Sالنَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ...[7] والنَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِرَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ عِبَادَةٌ...[8].
حب علي والنظر إلى وجهه عبادة، ذكر علي عبادة، هذه كلها تصنع القلب، بعض المغرضين يعترض ما معنى Sحُبُّ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لَا يَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ وَبُغْضُ عَلِيٍّ سَيِّئَةٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَة[9]؟ ويقول هذا كلام غير معقول، وفي كتابي: (شعاع من نور فاطمة صلوات الله عليها، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء عليها السلام) ذكرت 10 أدلة وأكثر على القيمة الذاتية لمحبتها والعترة الطاهرة، والآية الشريفة تقول: Pوَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[10]، القلب مبعث المحبة ومثل هذا الإنسان جِبال الشبهات لا يمكنها ان تقتلعه.
أمواج الشبهات
في هذا الزمن ابتلينا بأمواج الشبهات وهي لا تقل خطورة عن أمواج الأوبئة، مثلاً الايدز أو الايبولا أو كورونا الجديد، فإذا فايروس أو ميكروب واحد منها هاجمكم فقد يكون جسمكم محصناً، وجهاز المناعة قد يكون على مستوى التحدي وقد لا يكون، ولكن حتى إذا كان جهاز المناعة في بدنكم بمستوى أن يتصدى مثلاً لايبولا، ولكن إن هاجمتكم 10 فايروسات في وقت واحد فان البدن لا يتحمل طبعاً حينئذٍ، الفكر من هذا القبيل، ففي وقت واحد لو هاجمتكم شبهات متنوعة وخصوصاً مع وجود هذه الأجهزة الحديثة، سابقاً كان جاهل أو مغرض يجلس في غرفة ويثير شبهة ويخدع عشرة أو عشرين أو أربعين من حوله فكانت الشبهات مطوّقة بالجدران، أما الآن فان أي إنسان جاهل أو مغرض تأتي بباله شبهة في أي حقل فانه ينشرها في أرجاء العالم!! والشباب والنساء والرجال يمتلكون أجهزة التواصل في أيديهم، وفي الجامعات أيضاً تجدهم منفتحين على كل شيء، فإذا نجا أحدهم من شبهة فانه قد يقع في حبال الشبهة الثانية وإذا قاوم الثانية يقع في الثالثة والرابعة والخامسة، في وقت واحد إذا اجتمع على الانسان أربعة أسود فكيف يستطيع أن يدافع عن نفسه؟!.
قبل عشر سنوات تقريبا بعض علماء الزيدية في اليمن كتبوا 70 شبهة عن قضية الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف وأنا اطلعت عليها ورأيت أن كثيراً من الناس لا يستطيعون الاجابة على هذه الشبهات، فقد يعرف أحدهم الجواب عن الشبهة الأولى لكنه يتورط في الثانية وهكذا، وقد كتب بعض العلماء في قم إجابات وافية وقد اطلعت على أجوبتهم وكانت أجوبة جيدة.
وإننا إذا قمنا بدراسة الشبهات من وجهة نظر علم النفس، وبحثنا عن ما الذي يحصن الانسان؟ فاننا سنجد إنه عمق المحبة، هذا الذي يصنعه الحرم الشريف، هذا الذي يصنعه العباس عليه السلام، تصنعه المصائب التي وردت على أهل البيت، ان الانسان بطبيعته يحب المظلوم، فمظلومية أهل البيت هي التي تمسك قلب المؤمن، فإذا ثّبتم محبة الحسين صلوات الله عليه وأمير المؤمنين في قلوب أبنائكم وفي قلوب المثقفين الذين تتعاملون معهم، فانه حتى لو لم يعرف الجواب سيقول هناك حتماً جواب لكني لا أعرف الجواب وسأجده يوماً ما، ان القلب إذا تحصن بشكل جيد اطمئنوا عندئذٍ.
إذن نحن أولا فيما بُنِي عليه مذهبنا من المحبة والعاطفة والمظلومية علينا أن نشتغل أكثر وان نركّز أكثر.
قبل أيام كنا في جلسة حوار مع أستاذ جامعي معروف جداً، وهو ممن يعتقد بأهل البيت ولكنني لاحظت ان تلك المحبة التي من المفترض أن تكون ليست موجودة لذا نجم عن ذلك بعض الانحرافات في فكره.. ان الكثير من المثقفين يتصورون أن الثقافة كل شيء، مع ان الثقافة ترتبط بالعقل أما القلب كما قلنا فان الدور الأول والأساس في تقويم العقل والسلوك معاً.
إننا الآن أمام تحديات كبيرة، فهذا العالم الافتراضي يغزونا باستمرار، وكما ترون فان المجالس العامة والخاصة لدينا أقل من السابق، وفي مثال آخر نجد انه في كربلاء قبل خمسين سنة وستين سنة وفي عيد الغدير مثلاً كانت الزخارف والزينة والاضاءة والنشرات الضوئية والاعلام الملونة مذهلة، وكذلك في الأحزان كانت الرايات السوداء والأضواء الحمراء، كل مدينتي النجف وكربلاء، وليس شوارع محددة منهما، كانت تتغير، الآن نرى أنه لا يوجد حتى عُشر ذلك، في كربلاء توجد مجالس ضخمة لكنها محدودة ومعدودة، حتى المجالس البسيطة كم واحداً يوجد منها؟ مع ان كربلاء القديمة كانت نفوسها أقل جداً، قد تقولون هناك فضائيات ولكن كم تستمعون لها؟ هذه الأجهزة الحديثة ووسائل التواصل من فيسبوك وانستغرام هي التي احتلت عوالم شبابنا.
يجب أن تفكروا حول هذه التحديات، وان تخططوا، لتغيروا من هذا الواقع المزري بقدر ماتستطيعون، في تربية أبناءكم أولاً وحفظهم على الأقل كي يكونون مثلكم بل أفضل ومع ذلك تتصدون لتطوير الجو العام الكربلائي النجفي الكاظمي السامرائي ثم الجو العام الشيعي.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
وقد سألت احدى الإخوات سماحة السيد:
الميتافيرس قد اطلعت عليه باعتبار أنه ضمن اختصاصي، المبرمج الذي طرحه يقول أنه قد اعترض مجلس الأمن عليه باعتبار أنه يخترق الخصوصية، هل الغرب لديهم مشكلة إن عارضهم هذا المشروع؟
وأجاب سماحته: مجلس الأمن الدولي خاضع لهم وهم لا يخافون منه، أن الشركات الكبرى العملاقة العابرة للقارات متى ماضمنوا أنها تخضع لسياساتهم فألف ميتافرس سوف يقبلون به، الكوربوقراطيات هي الحاكمة الآن وهي تعني أنه ليس السياسي، الرئيس الامريكي أو رئيس الوزراء البريطاني، هو الحاكم بالفعل الحاكم هو مجموعة ثلاثية تتضمن كبار الرأسماليين أمثال بيل غيتس وأصحاب الشركات الكبرى، والسياسيين والأحزاب الكبرى، الشركات الكبرى إحدى الأضلاع وليست وحدها وهم تسيرهم المصلحة المشتركة الاقتصادية – السياسية وسيفرضون الميتافيرس كما بدأوا بفرض العملة الرقمية.. سابقاً كانت العملة المتداولة الذهب والفضة فألغوها وأصبحت أوراقا وقد استفادوا من ذلك وسرقوا أموال الناس عبر ما يسمى بخفض قيمة العملة، إذن الذهب تحول لورق والورق يمكن التلاعب به كثيرا كما هو واضح والآن الورق تحول إلى مجرد مجموعة أرقام ويمكن ان لا نرى بعد عشر سنوات نقوداً أصلاً، بل مجرد عملات رقمية، هم يثيرون ضجة وهم يخمدوها بسبب الصراعات الداخلية وهم أنفسهم من ينتهك الخصوصية ولذلك الأمر خطير جداً.
إضافة إلى ذلك فالذي أعلنوا عنه انه ستزرع شرائح الكترونية في مخ الانسان تستوعب حوالي مليوني كتاب وذلك لكي يسيطروا عليه عبر المستقبلات الموجودة في هذه الشريحة، الوضع جدا خطير، الأمر معقد ومن يفكر به قد يصاب باليأس، ولكن عليكم أن تعملوا بالمستوى الذي تستيطعون والبقية على الله تعالى، وفي الرواية: Sإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَرَصَّدُوا لَهَا[11].
فاعملوا ولا تقصروا، يقول أمير المؤمنين: Sفَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ[12]. فالنصر من الله. والآية تقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[13].
لذلك ادعوا في هذه الليالي بالإخلاص والتوفيق والبركة في المال والأهل والولد والقلم والقدم والبنان والبيان والذرية الصالحة وتعجيل الفرج انه سميع مجيب.
اضافةتعليق
التعليقات