وقفتْ أمُّ القرى على قارعة الانتظار، قد أرهقَ الشوقُ فؤادَها بانتظار وليدِها الماجد وفتى ملاحمها !في يوم جلّلته أنوار الغيب فازداد إشراقا، ارتدى البيتُ الحرام حلّة الفرح وهبّ واقفا إجلالا لضيفه الموعود!
حين خطرتْ بنتُ الأمجاد بخطوات تنوء بحمل كالجبال، وأنفاس يمازجها التسبيح - ترى ماذا همستْ لكعبة الإله؛ حتى خشعتْ لها الجدرانُ، واستضافتها في أحضانها ثلاثا؛ فصارت لوليدها الميمون مهدا؟ ومن حجر فاطمة إلى احضان المصطفى كانت رحلة الشغف الأولى، لتكتحل عينا عليٍّ بسنا وجه محمد، وليسمع صوته هامسا: عليّ، أنت أخي ووصييِّ !!
من أين نبدأ الحديث عن عليّ؟ ومن أي باب من بوابات شخصيته العظيمة نحاول الولوج؟ هذا السؤال الذي يستفزّ من يريد الكتابة عن عليّ حتى تسوّل له نفسه العدول عن هذه الفكرة التي لا تطاق؛ فكيف يحيط المحدود بما لا حدود له ؟!
ولكن لنبدأ القصة من فصلها الأول، من حدث الولادة؛ فقد اكتنفت ولادة عليّ فرادة الزمان والمكان، فالزمان يوم من الأيام البيض في شهر حرام، والمكان جوف الكعبة، حدث لم ولن يتكرر مثيله؛ فمن سواه وُلد في جوف الكعبة؟ والأغرب إن تلك السيدة العظيمة لم تدخل الكعبة من بابها بل بمعجزة انشقاق الجدار، ولقد جهد الحاضرون أن يفتحوا الباب فاستعصى عليهم حتى أدركوا أن ذلك أمر من الله تعالى، وبقيت في ضيافة الله هي ووليدها ثلاثة أيام تأكل من ثمار الجنة، وتغمرها ألطاف الغيب بما لا تدركه العقول والأوهام !
لو أردنا أن نتوقف عند هذه المنقبة لكفت عليا فخرا، وسؤددا، فكيف وهي بداية الرواية الجميلة، والحديث الشجي عن بطل الإسلام الأول، وفتى الملاحم الأوحد .
لقد تضافرت الأسباب والعوامل لتخلق من عليّ رجلا لا نظير له في الأمه، ابتداء من عراقة النسب، وشرف البيت الذي انحدر منه، والذي منحه أصالة الشخصية، ونقاءها، إضافة إلى الإجلال والإكبار في نظر المجتمع؛ فأبوه أبو طالب سيد البطحاء، وجده عبد المطلب سيد مكة، الذي قال عنه رسول الله : ( يُحشَر جدي عبد المطلب بسيماء الأنبياء وهيبة الملوك) .
يضاف هذا إلى ما منحه الله تعالى من ملكات وفضائل نفسية وجسدية، ميّزته عن غيره، ومن ثم تعهده النبي بالتربية والإعداد حتى صُقلت شخصيته لتصبح جوهرة الوجود الإنساني بلا منازع .
تقول الروايات إن عليا بعد لادته لم يفتح عينيه إلا بوجه محمد، الذي طلب من السيدة فاطمة بنت أسد ان تضع مهده إلى جانب فراشه، وسمّى عام ولادته بعام البركة !
ومنذ اليوم الأول بدأت علاقة استثنائية بين خاتم الأنبياء، وسيد الأوصياء .
في ذلك الوقت ماكان محمد مجرد ذلك الشاب الذي يعيش في بيت عمه، فهو نبي منذ كان آدم بين الماء والطين، وكان مسدّدا بأعظم ملك من الملائكة كما ورد في رواية الإمام علي عليه السلام: (ولقد قرنَ اللَّه به (صلى الله عليه واله)، من لدن أَن كان فطيماً أعظمَ مَلَكٍ من ملائكتِه، يسلكُ به طريقَ المكارمِ، ومحاسنَ أخلاقِ العالمِ ليله ونهاره) .
في أحضان هذا النبي المسدّد تربّى عليّ، تعهّده كما تتعهد الأم الحنون رضيعها؛ وكما يخبرنا علي: ( وضعني في حجرِه وأَنا ولدٌ يضمُّني إِلى صدرِه، ويكنفني في فراشِه ويمسُّني جسدَه، ويشمُّني عرفَه، وكانَ يمضغُ الشَّيءَ ثمّ يلقمنيه) .
هذه العلاقة الحميمة الملفتة للنظر ليس لأن عليّا ابن عمه، وليس لأنه يريد أن يردّ جميل أبي طالب الذي كفله طفلا بجميل مثله، إن الأمر أعمق وأبعد من علاقة الرحم التقليدية، أو مشاعر العرفان؛ بل لأن رجل البشرية الأول يُعِدُّ رجلها الثاني، فالمستقبل الآتي سيصنعه هذان
العظيمان، وهما سبيل الهداية، وسفينة النجاة .
وتستمر المسيرة، يدا بيد، وخطوة بخطوة عليّ لا يفارق محمدا لحظة واحدة: (ولقد كنتُ أَتَّبعُه اتِّباع الفصيلِ أَثرَ أُمِّه، يرفعُ لي في كلِّ يومٍ من أخلاقِه علماً، ويأْمرني بالاقتداءِ به) .
وعندما بدأت إرهاصات النبوة، وكانت للنبي صلى الله عليه وآله خلوات في غار حراء، كان عليّ برفقته يرى مايرى من تجليات الغيب، ويسمع ما يسمع، وليكون بقلبه الطاهر، وفطرته النقية أول من يتلّقى فيض الرسالة ويؤمن بها ( ولقد كان يجاور في كلِّ سنةٍ بحراءَ، فأَراه ولا يراه غيري، ولم يجمعْ بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلامِ، غير رسولِ اللَّه (صلى الله عليه واله) وخديجةَ وأنا ثالثهما، أَرى نورَ الوحيِ والرِّسالةِ وأشمُّ ريحَ النّبوّةِ، ولقد سمعتُ رنَّةَ الشَّيطانِ حين نزلَ الوحيُ عليه (صلى الله عليه وآله)، فقلتُ يا رسولَ اللَّه ما هذه الرّنّةُ، فقالَ هذا الشَّيطانُ قد أَيسَ من عبادتِه، إِنّك تسمعُ ما أَسمعُ وترى ما أَرى، إِلَّا أَنّكَ لستَ بنبيٍّ ولكنّكَ لوزيرٌ، وإنّكَ لعلى خيرٍ).
فكان عليّ المرآة التي تعكس خُلق محمد، وسَمْت محمد، بل صار كنفسه، لأنه وزيره، والقيادة النائبة بعده التي لا نظير لها، ولا بديل وهو من سيكمل بعده المسيرة لو رضخت الأمة لتخطيط السماء ولم تنقلب على الأعقاب !
ومع هذه الملازمة الطويلة للنبي صلى الله عليه وآله فهو لم يخالفه قط، ولم يردّ عليه في أمر أو تكليف بخلاف من يدّعون الصحبة للنبي، وكان المدافع عنه في المواطن كلها، والفدائيّ بين يديه (أنى لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر الأقدام، نجدة أكرمني الله بها) .
ومن طريف ما يُروى عن طاعة عليّ للنبي موقفه يوم خيبر حين أعطاه النبي الراية، وقال له: ( امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك)، فلما سار عليّ خطوات خطر بباله سؤال، فوقف ولم يلتفت ونادى: (يا رسول الله علام أقاتل الناس)؟
قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... )، بهذه الدقة المتناهية ينفّذ الجندي المخلص أوامر قائده !.
لقد كان عليّ حقا بطل الحرب والسلام، وكان جهاده السلمي ضد الظالمين له، والغاصبين لحقه الشرعي، ودوره في قيادة الأمة لا يقلّ روعة عن جهاده في ساحات الوغى وهو يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله !.
وما بين يوم الولادة في بيت الله، ويوم الشهادة في بيت آخر تأريخ ناصع وحافل في الإخلاص لله والجهاد في سبيله، والصبر في جنبه، والتفاني في نصرة دينه وحفظه والذود عنه .
وهكذا يظل عليّ الرجل المُتْعَب والمتْعِب، مُتْعَبٌ من أمةٍ لم تعرف قدره، ولم تضعه في الموضع الذي اختاره الله له، بل أضبّت على عداوته، وأكبّت على منابذته.
ومتْعِبٌ لمن أحبّه لأنه عاجز عن إدراك ومعرفة تلك الشخصية التي لا يحيط بأبعادها إلا الله ورسوله ( ياعلي لا يعرفك الا الله وأنا ) .
ومتْعِب لمن عادوه؛ فلقد اجتهدوا أيّما اجتهاد في طمس مناقبه، وإطفاء نوره، لكن فضائله شاعت حتى ملأت ما بين الخافقين، و نوره ازداد توهجا وعلوا، وسيبقى نبراسا ينير المسير لكل طلّاب الحق والخير والفضيلة حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها وإلى يوم يبعثون .
اضافةتعليق
التعليقات