إنَّ أنضج أنواع التعقل هو المباحثة المثمرة والتي تقدح مجموعة من الأفكار في الذهب ومن ثم تبادلها مع الآخرين لتكون الحصيلة كماً من الأفكار والقراءات والتفاسير وهذه الفكرة تلخصها هذه المقولة: (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله)، ومن هذا انطلقتْ فكرة مناقشة بعض الأحاديث من نهج البلاغة في مجموعة الكترونية أدارتها الأستاذة فاطمة معاش حيث قدمتْ حديث أمیر المومنین (علیه السلام):《وَ الْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وَ غَوْرِ الْعِلْمِ وَ زُهْرَةِ الْحُكْمِ وَ رَسَاخَةِ الْحِلْمِ؛ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ وَ مَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ [الْحِلْمِ] الْحُكْمِ وَ مَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَ عَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً》ليكون على طاولة المباحثة والتفسير واستخراج الأفكار.
فكتبتْ هدى تاج: العدل بين الناس بحاجة إلى أربعة عناصر هي: فهم عميق وعلم غزير وصواب في الرأي وضبط للعواطف وكل العناصر هي مهمة ومكملة للأخرى وبفقدان واحدة منها ينتفي معنى العدل، وبدون الفهم الصحيح والعميق للأمور لا يمكن أن نصل إلى العدل فالفاهم هو من يتمكن من إقامة العدل بالغوص في الحقائق والإطلاع على الماورائيات، فضلا عن إن الفهم الصحيح هو مفتاح كل خير وبه يتمكن الإنسان من كسب العلم وكشف أسراره.
وقد يأتي الفهم هنا بمعنى حسن التصور وجودةُ استعداد الذهن للاستنباط.
وأضافتْ أيضا: الإنسان العادل يدأب في السير على الطريق الواضح والشريعة الحقة فلا يتبع المتشابهات ولا يبحث عن الأحكام الملتوية، الحلم الراسخ هو العنصر الأخير المطلوب لتحقيق العدل فهنا يتحدى العاطفة التي قد تلويه عن الحكم السليم فيضبط النفس عن الميل مع الهوى عن الحق، على الإنسان أن يسعى لتطبيق مفهوم العدل في حياته ليصل إلى حقيقة الإيمان فيحب لغيره ما يحب لنفسه وينصفهم في معاملاته معهم ولا يكذب عليهم ويسعى للإيفاء بوعوده.
وفسرتْ دنيا كريم مفردات الحديث فعرفت العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، أي الحق والحكم بالحق، غائص الفهم: دارك للأمر بكل جوانبه وفاهم، غور العلم: العلم الذي يغور في باطن الأشياء، زُهْرَة الحكم: أي أحسن الحكم وأفضله رساخة الحلم: الصبر على الأمور مهما بلغت صعوبتها، الحلم يعني الثبات، فاللعلم والغوص في بحاره ينتهي بالإنسان بأن يكون حليما ثابتا لا تهزه توافه الأمور وصعابها، العلم ذلك البحر الواسع الذي ينهل منه كل شيء مفيد، فالعلم فريضة تجعل لكل إنسان منا دوره في هذه الحياة، فكم من الأجر الوفير والنعمة التي ينالها طبيب غاص في اختصاصه وعرف تفاصيل المرض وتشخيصه وعلاجه، كم إنسان سيشفى بإذن الله على يديه، المهندس الذي أتقن عمله وأبدع فيه كم من الساحات ستُبنى وكم ستزدهر الأعمار والبناء، المعلم ذلك الصرح صاحب الرسالة العظيمة، كم أنه يؤجر أجراً عظيماً عندما ينقل ذلك العلم لطالبه، عندما يغرس فيهم حب الله ورسوله وآل بيته، وإن ذلك العلم الذي نتعلمه لابد أن يتوج بالفهم والتمعن، وذلك الفهم يجب أن يرتدي حله الحلم، فلولا الحلم لضاعت الأرض، الله تعالى لو لمن يكن حليما بنا لهُلكنا من أول ذنب وأول معصية، نبي الرحمة لو لم يكن حليما بأمته لما حمل على كاهله تلك الرسالة العظيمة التي أضاءت الكون رحمة وجعلت للإنسانية شأنا، علي ابن أبي طالب سلام الله عليه، لو لم يكن حليما لأستبد به الغضب عندما بصق ابن ود العامري على وجهه الشريف الطاهر.
الحلم هو أن تكون ثابتا في أشد المواقف يأساً مقتديا بذلك برسول الرحمة ومولانا علي، ومجتمعاتنا اليوم بحاجة ماسة إلى العلم والحلم إلى العدل، فكم من الحكام والقضاة اليوم يتخبطون هنا وهناك ويصدرون أحكاما لطالما آذت الناس وأهلكتهم مبتعدين عن كتاب الله وحكمة رسوله، فاليوم بعض الجهلة من الناس بات بارعا بإصدار الأحكام وتنفيذها دونما أي رجعة لله وهذا كله نتاج غياب العلم والتعقل وغياب الوعي وقلة الدين.
وكتبتْ مروة ناهض: في هذه المقطوعة الزاخرة بالعجب العُجاب يقف العقل مُتحيراً لا يدري كيف له الإلمام بهذه البلاغة التي لا يدركها العقل القاصر بل كيف له أن يتناول بعض جوانبها وهي بهذه الدقة المُتناهية بالصغر والتي تكاد تكون أشبه بمعجزة حيّة متنقلة عبر الأزمان تطلب ذو الفهم العميق الغائر بالعلم العظيم والحاصل على الحكم الصائب الخالي من الأهواء لكي يدرك ما وراءها من عظمة!
يتدرج أبو الحسن صلوات الله عليه تدرجاً سماوياً حين يصل لمعالجة المشكلة الأزلية في النفس البشرية التي تقع بين منحدرين (الأول ضُعف قدرته على إنصاف الناس من حوله وإعطاء كل ذي حق حقه وبين عدم قدرته على مخالفة هواءه).
ثم يضع الحل الأمثل لهذه العقبة الأزلية إذ أنها لا تُحل بالكلام ولا حتى بالفعل البسيط بل تحتاج لـ غور في أعماق محيطات العلم والمعرفة من أجل الحصول على لؤلوة الإيمان!.
إستخدام مفردات بهذا العمق دون غيرها من المفردات إنما إشارة لعظيم ما أراد إيصاله من أمر عظيم كـ (العدل) فالمؤمن لا يكتفي بالأمور الظاهرة ولا يقف عند شهود الأشياء بل يغوص من أجل معرفة الحقيقة كما يغوص طالب اللؤلؤ في أعماق البحار حتى يحصل عليها وحين يحطم كل صفات الأهواء والكبر والغرور فإنه يُؤتى غائص الفهم.. وحين يُؤتى غائص الفهم فإنه سيغور في أعماق العلم من أجل الوصول لـ لب الحقيقة فهو لا يقف عند العلوم السطحية ولا ينظر النظرة القشرية عندها فقط يحصل على الحُكم الزاهر الواضح الخالي من الشُبهات والذي لا يشوبه شك ولا ريب!
ولا تستهويه الطرق المُلتوية بل يسير على الطريقة الواضحة! وآخر المطاف قد يتمكن من الحكم الصائب لكن قد يقف عند عقبة العاطفة فلا تمكنه من إعطاء الحكم السليم فـ تشوشه وتثنيه إلا الراسخ بالحلم الضابط لنفسه عن الميل لأهوائه هو فقط من يتمكن من مجابهتها ولعلها من أجمل الإشارات التي أُقترنت بالعدل رساخة الحلم.
ثم لخصتْ الحديث بنقاط:
١- الحث على أخذ العلم من منبعه الصافي الذي لا كدر فيه ولا شائبة.
٢- الغور في أعماق العلوم والمعرفة والبحث دائماً عن الأسباب وعدم الإكتفاء بالقشور من أمور دينه ودنياه.
٣- لا يقع المؤمن في شباك السطحية ويُوهم نفسه إنه على الطريق الصحيح مالم يزن أفعاله وطباعه بميزان المولى سلام الله عليه.
٤- الحث على طلب العلم وعدم الإكتفاء عند حد معين.
٥- تنمية التفكَّر والتدبر عند الإنسان والتأمل من أجل الوصول لغاية أسمى.
٦- العمل على اكتساب الصفات والأخلاق الحميدة التي تُعين الإنسان على كشف الحُجب وفهم الحقائق.
٧- عدم تقليد الناس تقليداً أعمى ولو كان في الدين فديننا دين الحجة والدليل الراسخ.
٨- أن يعمل على مطابقة أفعاله أقواله والإنتباه من إطاعة الهوى.
٩- كلما تعمَّق بالعلم والمعرفة الحقة كلما خالطت دمه ولحمه وبالتالي تظهر عليه بكامل جوارحه وجوانحه.
١٠- إنصاف الناس من نفسه وإعطاء كل ذي حق حقه.
١١- مخالفة الهوى أسمى طوق نجاة للإنسان من مُغرقات الدنيا.
١٢- ضبط النفس والحلم الكاشفة التي تُزيل الغبار وتوضح الطريق.
١٣- معرفة الحق وإدراك أن حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فلا مساومة ولا مصلحة.
١٤- اقتران العلم والفهم والقدرة على إعطاء الحكم الصائب بـ ترسيخ الحلم في بواطن النفس البشرية.
١٥- القدرة على تحمل صعوبات الطريق الشاق إذ إنَّ العلم والمعرفة الحقة تتزامن دائماً مع صعوبات جمة لا يتمكن الفرد من مجابهتها بغير ضبط النفس.
١٦- سعة الصدر وتحمل المشاق من متطلبات طريق العلم.
١٧- تحمل طباع وآراء الناس والنقد بكل أنواعه من أجل الإرتقاء.
فيما قدمت حنين حليم إجابتها: كلمات نورانية ومعاني جلية تقف العقول أمام عظمتها وسموها ومن الأفكار المستوحاة:
١ - المقصود بالعدل ترك الظلم والحكم بالحق ولو على نفسه وخاصته وقرابته.
٢- وكأن العدل جمع في إنصاف الناس من نفسه.
٣- غائص الفهم: أي الغوص في الماء أي التعمق للبحث عن اللؤلو المخبوء في الماء كذلك يجب أن يتعمق الإنسان في كل أموره.
٤- من فوائد الفهم العميق أن الإنسان يكون ذو استيعاب للآخرين.
٥ - منصف لهم ولا يظلمهم وتكون له قابلية الفهم التي تغنيهم عن التكلف والشرح.
٦_ غور العلم: الغور في الشيء أي الدخول فيه وتدقيق النظر في الأمر أي التعمق وكثرة الأخذ منه.
٧-ومن فوائد الدخول بالأمور والتدقيق فيها أي الإستزادة وتحصيل العلم الذي يغني الإنسان من الوقوع بسوء الفهم.
٨- ويغنيه عن تفاقم الجهل ويكون مرجعاً لغيره كونه متسلح بالعلم النافع المغني له والدافع عنه كل مايعتريه من أمور دنياه وقضايا مجتمعه.
٩- زُهرة الحكم: القضاء والحكم والفقه، وقد شبه الحكم الواقعي بالزُهرة لكونه معجب ومثمر لأنواع الثمرات الدنيوية والأخروية لكونه نافع في الدارين ومن معاني زهرة (شدة اللمعان والصفاء).
١٠- ومن معاني زهرة الحكم: الوضوح وإصابة الحكم ولمعانه في ذهنه واتقاده في عقله نتيجة وجود الصفات التي سبقت والتي تؤهله لكون حكمه سيكون واضحاً وجلياً ومنصفاً حيث يجعل الحكم في نصابه.
١١- رساخة الحلم: والرساخة أي الثبوت والحلم: الأناة والتثبيت.
١٢_ بالحلم يكون الإنسان ضابطاً لنفسه ومخالفاً لهواه ويكون دليلاً على سمو النفس وكرم الأخلاق وسبباً للمودة والألفة.
١٣- تتابع الشعب الأربع لصفة العدل يجعل الإنسان ذو فهم ويتحقق في داخله ما يرجى لكل مؤمن. فالعدل ليس خاصاً بالحاكم بل بكل فرد في حياته.
١٤- تورث في الإنسان عدم التفريط فيكون بعيداً عن التوسط لمعارفه وتقريبهم دون الآخرين في كل المجالات.
١٥- من آثار العدل يعيش حميد الذكر من محبيه ومبغضيه وكذلك يكون ذكره طيباً ويرجوه الناس وبالتالي يحقق فوز الدارين.
هذه المناقشات التي تثمر في قدح الأفكار في الذهن والتعمق في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وفهم بعضا من مضامين الأحاديث ومحاولة تطبيق تلك الأفكار في الواقع ومحاولة نقلها هي زكاة العلم.
اضافةتعليق
التعليقات