نظرا للظروف التي تشهدها البلاد بعد جائحة كورونا وفرض حظر التجوال، عقد اجتماع لجمع من المؤمنات الكترونيا، وبحضور سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله)، وذلك في 23/6/2020 الموافق 1 ذي القعدة 1441 هـ.
وقد كان اللقاء الالكتروني على مجموعة في برنامج ال (الواتس اب)، فرصة جميلة لحضور ضيفات كريمات من باقي الدول ك: الكويت والسعودية وايران وبريطانيا وكندا واستراليا.
حيث بدأ سماحة السيد حديثه قائلا:
في هذه الأيام التي تعج بالأحداث والمصائب والبلايا والرزايا الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، الأحرى والأجدر بنا أن نستذكر وصايا رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين فهي دروس وعِبَر لنا جميعا، وسوف أنتخب بعض وصاياه التي من الممكن أن تعالج بعض مابنا من داء إن شاء الله، ولو أننا عملنا بها جميعا لرفع الله عنا الغمة بلطفه وكرمه العامة والخاصة.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً أمير المؤمنين (عليه السلام):
(يَا عَلِيُّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ جَوَّالَ الْفِكْرِ جَوْهَرِيَّ الذِّكْرِ كَثِيراً عِلْمُهُ عَظِيماً حِلْمُهُ)[1].
هذه الصفات الأربع تقع بين 103 خصلة، يذكرها (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث للمؤمن، وهي صفات مهمة إلى أبعد الحدود، فان هذه الصفات، تعد مؤشرا على مدى إيمان الانسان، ويمكن أن نستخدم طريقة البرهان الإنّي، أي الانتقال من المعلول إلى العلة، لنستكشف درجة إيماننا، فهذه المقاييس مهمة جداً، لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من صفات المؤمن، فهذه المواصفات هي صفات للمؤمن، فإن لم يتحلَّ شخص ببعض هذه الصفات فهذا يعني نفي صفة كمال الايمان عنه، أي ليس بمؤمن بما للكلمة من معنى، فلذا ينبغي أن نستحضر هذه الصفات الأربع معنا كل يوم، ونقيس على ضوئها مدى ايماننا.
الصفة الاولى: جوال الفكر
ماذا تعني جوالية الفكر؟
بعبارة مبسطة: أن تجول في عالم الماضي وفي أفق الحاضر وفي مجاهيل المستقبل، يعني أن تجوب بذهنك أرجاء الكون والحياة وبمعلوماتك وبما تستطلعه من أحوال الأمم الماضية والحاضرة وتستشرف بذلك المستقبل أيضا.
يعني: أن تجول بفكرك في أرجاء الدول والحضارات المختلفة، وأن تجول في عالم الأسباب وفي عالم المسببات في مختلف الأبعاد.
مثلا وحسب الاحصاء توجد هناك في كل 40 ثانية حالة انتحار واحدة في العالم، وعلى بعض الاحصاءات السابقة فإن عدد الذين ينتحرون في العالم سنوياً تجاوز ال 800 ألف، فالمؤمن عليه أن يفكر لماذا ازدادت حالات القلق والكآبة التي تفضي إلى أقصى درجات البؤس؟، فالمؤمن يفكر بالداء ويفكر بالدواء.
وأيضا: بعدد الثواني تزداد حالات الطلاق، في العقود الأخيرة حتى في بلادنا، بلاد الكفر الأمر فيها واضح، لكن لماذا في بلاد الاسلام وصلت نسبة الطلاق في بعض الدول إلى 40% أو 43%، وفي بلدان إسلامية قاربت نسبة الطلاق الـ50%، وهي مع ذلك في ازدياد.
إن من صفات المؤمن أن يفكر في أسباب مختلف الظواهر ومنها ظاهرة ازدياد حالات الطلاق، فإذا فكر في الأسباب وكان فكره جوّالاً فإنه سيفكر بعد ذلك في سبل العلاج والحل.
وكذلك في مثال آخر، التخلف، هذا التخلف الذريع الذي منينا به في مختلف الأبعاد، في الصناعة والزراعة والسياسة والاقتصاد والحقوق والجانب الاجتماعي والتكنلوجي والتعليم في المدارس والجامعات، هذا التخلف يحتاج إلى تفكير مستمر في العوامل والأسباب وفي الحلول، وإذا أصبح المؤمنون جوالي الفكر في كل ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو عملية أو أخلاقية، كلٌ بحسب اختصاصه والمجموع بحسب المجموع، وبحسب طبيعة كل شخص، فحسب الحديث (الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ)[2]، فعلى مستوى العقل النظري سوف نفهم، وعلى مستوى العقل العملي سنصل إلى أن نكتشف الحلول ويمكننا أن نعالج تلك الظواهر الخطيرة.
لنضرب مثالاً آخر، الآن الأُسر، الأمهات والآباء يتعاملون في تربيتهم لأولادهم تعاملا طبيعيا كسائر الناس، أما المؤمنة فينبغي أين تكون جوالة الفكر في كيفية تطوير تربيتها لأولادها، بحيث يكونون قمةً في الأخلاق، قمة في الورع والعلم والعطاء والانجاز.
بتعبير آخر الأطفال لهم نقاط ضعف ونقاط قوة، فبعض الأطفال يتميزون بالذكاء، بعضهم بالشجاعة، بالصبر أو الحلم أو عمق التفكير، أو الفكر الابداعي، أو المداراة وماأشبه ذلك.
وقد تكون لهم نقاط ضعف، قد يبتلى الطفل بالبخل أو الحسد أو الكسل أو النوم الكثير أو ايذاء الاخرين أو يكون جبانا أو لا يملك الهمة العالية.
نحن عموما نتعامل مع هذه الظواهر بأسلوب عادي غير خلّاق، فقد ننصح أحيانا، نعاتب، نشتد ونُعنّف، لكن هذا ليس كافياً في كثير من الأحيان، المؤمن عليه أن يكون جوال الفكر، أي بفكره يتجول في مختلف أرجاء ما يحتمل أن يصطاد منه علماً أو معلومة أو فنا جديدا يتكفل بتربية متطورة:
ففي نقاط القوة في الطفل يقوم بتنميتها وتقويتها، كما المزارع يزرع البذرة ويرعاها إلى أن تصبح شجرة باسقة، هل نحن فاعلون ذلك؟ هل نحن جوّالوا الفكر في طرق تربية أبنائنا؟، لا.
وذلك كله يتوقف على مقومات كثيرة منها الصفة الآتية وهي: كثير علمه، يعني ان جوالية الفكر تتوقف، إلى حد ما، على كثرة العلم.
إذن نقول الصفة الأولى للمؤمن أن يكون جوال الفكر، يوميا هل أنتم تفكرون تفكيرا ابداعيا متطورا؟، إذا كان ذلك فذهنكم جوّال، وقد تحققت فيكم صفة من صفات المؤمنين، طبعا الفارق بين المؤمن وغير المؤمن، أن جوالية فكر المؤمن تصبّ في أهداف عليا، ايجابية، راقية، سامية، انسانية، اسلامية، دينية، أما غير المؤمن فتصب جوالية فكره في طريق الشر، فالمراد من قول رسول الله جوال الفكر أي بما يُصلح دنياه وآخرته، فالجوالية طريقية تقع في طريق الخير والارشاد والهدى والصلاح.
الصفة الثانية: جوهري الذكر
جوالية الفكر لاتكفي لوحدها بل يجب أن تصحبها صفة أخرى، وهي أن أن يكون ذكره لله سبحانه وتعالى جوهريا، أي أن يكون جوهره ذاكراً لله سبحانه وتعالى، نحن كثيراً مانتذكر الله لكن يكون ذلك على مستوى اللسان كلقلقة، ولا يكون في العمق وعلى مستوى الجوانح، المؤمن يجب أن يتميز بهذين الصفتين معاً؛ جوالية الفكر وجوهرية الذكر، (الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[3].
أي إذا قال: بسم الله، الحمد لله، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء... يهتز قلبه من أعماقه يستشعر هيمنة الله سبحانه وتعالى، هل نحن هكذا؟، يجب على الانسان أن يستكشف ذلك في نفسه: فإذا ذكر الجنة هل يرتعش قلبه؟، وإذا تذكر النار هل يرتجف قلبه؟، المؤمن هو الذي إذا ذكر صفة من صفات جلاله، خاف وارتعد، وخاف وحذر وتحذر، وإذا فكر بصفات جماله استشعر العظمة بشراشر وجوده.
هل نحن كذلك؟، هذه من صفات المؤمن، ذكر الله يكون كامناً في جوهره، أي معجوناً بنفسه، ويظهر أثر هذا عند المنعطفات.
مثال، لو واجهكم منعطف خطير، كما لو تفجرت القوة الغضبية عندكم، تجاه جار أو طفل أو زميل أو شريك أو حتى عدو، هنا في هذا المنعطف الانسان يفقد أعصابه وقد يقدم على أعمال خطيرة، هنا جوهرية الذكر تظهر ثمرتها، قد يقول قائل أنا انسان مسالم حتى لو غضبت فانني لا أجرح أحداً، ولكن يجب أن يسأل نفسه: انه هل يتّهم حينئذٍ؟، هل ينمّ؟، هل يسمع الغيبة، فإذا غضبتم على شخص عليكم أن لا تغتابوه ولا تتهموه، هكذا يجب أن نكون وأن نربي الآخرين على ذلك أيضاً.
وبتعبير آخر، المستفاد من الرواية أن يكون لكم فكر مع ذكر، جوالية الفكر وجوهرية الذكر، أن يكون كلامنا دائم التفكير الابداعي الخلاّق وعميق الذكر لله سبحانه وتعالى.
لابد أنكم تذكرون قضية الشيخ الأنصاري (قدس سره)، حيث امتحنه الله في أمانة مالية، ولكنه في سبع مرات نجح في الامتحان، كان يريد استعارة الأمانة مع نية ارجاعها، لكنه فكر أن هذا خلاف الاحتياط، كانت له حاجة شديدة فنوى أن يقترض منها ثم يعيدها، لكنه فكر أنه لعله يموت، فاتقى الله سبحانه وتعالى إلى هذه الدرجة، سبع مرات حتى فرج الله عنه في قضية مفصلة.
إن الامتحان هو الذي يكشف عمق الانسان، ومن الامتحانات امتحان الولاية والرياسة، وفي الحديث (الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ)[4]، وليس الوزير أو النائب فقط هو المتصدي للولاية، كل نوع من المواقع والمسؤوليات هو نوع من الولاية، الأم بالنسبة إلى أطفالها لها نوع من الولاية العملية نوع من الادارة، الرجل بالنسبة لأولاده، كل موقع وكل منصب، سواء أكان تعيينياً أم تعيّنيّاً، فهو نوع من الولاية، فقد يكون الانسان رئيس شركة، وقد يكون معلماً في المدرسة.
ماذا تعني: (الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ)، المضمار المكان الذي تُضمر فيها الخيل لكي تنجح في السباق، الخيل يجب أن تكون ضامرة، وزنها يجب أن يتناسب مع سرعة العدو، فإذا أردتم أن تكتشفوا أنكم مؤمنين أو لا انظروا إلى مسؤوليتكم كيف تؤدوها؟ مثلاً المعلم أو المعلمة هل تحضّر جيداً للمادة؟، الأستاذ في الحوزة هل يحضّر جيداً للمادة، الخطيب هل يستفرغ الوسع في التحضير للمادة، كذلك الأم هل تستفرغ الوسع في تربية أطفالها بأفضل الصور أو لا؟
كل ذلك يحتاج إلى تدبر وتأمل، أن حقيقة الانسان في مثل هذه الحالات تظهر جلياً، فعلى كل منا إذا قصّر في التربية أن يتذكر الله، إذا همّت المرأة بأن تتقاعس عن مسؤولياتها في الأسرة أو في المجتمع فلتتذكر الله، المعلم يتذكر الله، الوزير، أستاذ الجامعة، أستاذ الحوزة، المفكّر، الكاتب إذا أراد أن يكتب شيئا.
بل حتى الانسان عندما يريد يطرح فكرة شاذّة حباً للشهرة عليه ان يتذكر الله تعالى، بعض الناس يرى طريق الشهرة معبداً له عبر طرح أفكار شاذّة، هنا، (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ)[5]، إذ يعرف في عمق نفسه انه طرح الفكرة من أجل أن يمتدحه هذا وذاك، المؤمن هنا يظهر واقعه، في مواطن الامتحان.
إذن هاتان الصفتان يجب أن تقترنا، جوالية الذكر، جوهرية الذكر، ونضيف نقطة أخرى هنا وهي أن الانسان الجوال الفكر مرتقاه مرتقى صعب، ومنحدره منحدر خطير، لأن جوالية الفكر كثيراً ما تقود إلى مضاعفات سلبية شديدة فهذا نوع من الامتحان، فكما ان المال والقدرة والعلم الكثير سلاح، كذلك الفكر الجوال سلاح بيد الانسان، وكلما كان السلاح أقوى وأمضى كانت الخطورة على الانسان أكثر.
نورد مثالا لطيفا، شخص كتب كتاباً منذ حوالي خمسمئة سنة تقريبا 1513، ولقد غيّر بكتابه وجه التاريخ إلى حد كبير فمنذ حوالي خمسمئة سنة، مختلف شياطين السياسة وأشباههم في مختلف دول العالم يستلهمون من هذا الكتاب، اسم الكتاب: الأمير، لميكافيلي، هذا الكاتب عجيب في فكره، هو كان جوال الفكر، لكن بدون تقوى وايمان وذكر لله سبحانه وتعالى.
كانت له جوالية الفكر ولكنه لم يصبّها في طريق الخير، بل صبّها في طريق الشر، والطريف في الأمر أنه كتب هذا الكتاب ليعلّم الطغاة كيف يزدادون طغياناً وعلواً وعتوا على شعوبهم واستعباداً لهم، وقد كتبه لمجرد أن يحظى بموقع ومنصب أمين الجمهورية لأنه كان متهما قبلها بالمشاركة بمؤامرة، فأراد أن يجلب خاطر ولاة الأمر، لكنه مات بحسرته وبقيت عليه تبعته.
لقد كان له تفكير ابداعي شيطاني قل نظيره، مما يؤكد أن الفكر الجوال بمفرده خطر، علينا أن نزامن ونقرن هاتين الصفتين معاً: ذهنه في تجوال دائم وجوهره في ذكر الله سبحانه أيضا.
هناك نسخة أخرى هي: (جهوري الذكر)، ولعل من وجوه ذلك أن الانسان إذا جهر بذكر الله سبحانه وتعالى طُردت الشياطين، إذا كنتم في مجلس يغتابون فيه أحداً فإذا جهرتم بذكر الله منذ أن بدأت سلسلة الغيبة، مثل قولكم: لا إلا إلا الله، بصوت عال فإن الطرف الآخر سيخجل ولا يستمر، أو على الأقل سوف تشوشون عليه بذلك، وتعلنون براءتكم من هذا الفعل. فالمؤمن جهوري الذكر لله، وكل منهما له وجه صحيح.
الصفة الثالثة: عظيما حلمه
ومن الوجوه في شَفْعِه (صلى الله عليه وآله وسلم): (كَثِيراً عِلْمُهُ) بـ(عَظِيماً حِلْمُهُ)، وجود نوع من العلاقة العكسية بين الصفتين فإن الانسان، عادة، كلما ازداد علماً قلّ حلماً، لماذا، لأن العلم يستجلب الغرور، خاصة إذا أضيف إليه الموقع والمنصب، مثل أن يكون أستاذاً في الجامعة أو في الحوزة أو خطيباً شهير أو مفكراً مشهوراً وما أشبه ذلك، فالعلم بطبعه يعطي للإنسان زهواً وغروراً إلا إذا كان متقياً، العلم نوع من القدرة، و(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)[6]، استغنى بمال أو علم أو سلاح أو شهرة أو غير ذلك.
إضافة إلى ذلك فإن الانسان المنكب على العلم يزداد توتراً، فإذا استمر لمدة 50 سنة مثلا في الدراسة والمطالعة والتحقيق فإن أعصابه تضعف تدريجياً وربما ينفجر لأدنى شيء، ولكن على العكس من ذلك فإن المؤمن يجب أن يروض نفسه على ان يكون (عَظِيماً حِلْمُهُ) إلى جوار كونه (كَثِيراً عِلْمُهُ).
لاحظوا هذه الرواية اللطيفة، وهي صحيحة السند، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإمام الصادق (عليه السلام): (نِعْمَ وَزِيرُ الْإِيمَانِ الْعِلْمُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ الصَّبْرُ)[7].
فالايمان يحتاج لوزير وهو العلم، ولكن لماذا كان العلم وزيراً؟، لأنه يعينك على ايمانك، فقد تأتي شبهات فبالعلم تستطيع أن ترد تلك الشبهات، والوزير هو الذي يحمل أوزارك وأثقالك عنك، وهذا وجه تسميته بالوزير، ولأن الانسان العالم قد يبتلى بحدة وغرور وعجب، فإنه يحتاج إلى وزير، وزيره هو الحلم، فكلما تمتعتم بعلم أكثر فحاولوا أن تتميزوا بحلم أكثر.
لنطبق هذا على مستوى الأسرة والعائلة، المرأة أو الرجل في البيت خاصة في هذا الزمن، زمن كورونا الذي بسببه اضطر الناس للبقاء في البيوت أكثر، هنا تتجلى عظمة هذه الكلمة، (عَظِيماً حِلْمُهُ)، فإنه عادة يكون جو البيت خانقا فيما إذا انحصر أبناء الأسرة طوال أيام أو أسابيع أو أشهر في بيت مساحته محدودة حتى لو كان كبيراً، لأن الخروج يشكل متنفسا، فهنا تتجلى صفة المؤمن، انظروا هل تتمتعون بحلم عظيم مع الأطفال؟ والأخوة أو الأخوات؟ والأب والزوج أو الزوجة؟.
إذا أزعجكم أو آذاكم وأهانكم أحد الأطفال أو الأقرباء في البيت، فماذا أنتم فاعلون، هل تدخلون في نزاع معه أو تحلمون عنه، المؤمن هذه صفته، أن يكون كثيراً علمه عظيماً حلمه.
لاحظوا هذه الرواية الرائعة، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (إِذَا وَقَعَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُنَازَعَةٌ، نَزَلَ مَلَكَانِ، فَيَقُولَانِ لِلسَّفِيهِ مِنْهُمَا، قُلْتَ وَقُلْتَ، وَأَنْتَ أَهْلٌ لِمَا قُلْتَ، سَتُجْزَى بِمَا قُلْتَ. وَيَقُولَانِ لِلْحَلِيمِ مِنْهُمَا صَبَرْتَ وَحَلُمْتَ، سَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ إِنْ أَتْمَمْتَ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ رَدَّ الْحَلِيمُ عَلَيْهِ ارْتَفَعَ الْمَلَكَانِ)[8].
الآن لاحظوا في هذا الزمن، كم تتجلى أهمية وعظمة هذه الصفة.
وهناك رواية أخرى معروفة عن الإمام السجاد (صلوات الله عليه) وهي أن رجلاً سب الإمام (عليه السلام) لكنه (عليه السلام) تجاهله، فلم يرد عليه بالمثل، فقال ذلك اللئيم، إياك أعني، والإمام أجابه: وعنك أُغضي!.
وهذا نص الرواية: عن ابن جعدية قال: (سَبَّهُ (عليه السلام) رَجُلٌ، فَسَكَتَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ (عليه السلام): وَعَنْكَ أُغْضِي)[9].
هكذا يجب أن تكون منهجية المؤمن في الحياة، أن يكون جوال الفكر، جوهري الذكر، كثيرا علمه، عظيما حلمه.
في رواية أخرى أن لئيما سبّ الامام السجاد (عليه السلام) وهنا لنتوقف طويلاً عند جواب الإمام الذي يشكل بأكمله تربيةً وخلقاً، فقال له الإمام: (يَا فَتَى، إِنَّ بَيْنَ أَيْدِينَا عَقَبَةً كَئُوداً، فَإِنْ جُزْتُ مِنْهَا فَلَا أُبَالِي بِمَا تَقُولُ، وَإِنْ أَتَحَيَّرُ فِيهَا فَأَنَا شَرٌّ مِمَّا تَقُول)[10].
ربما المقصود من العقبة البرزخ أو الصراط، فلاحظوا السمو الروحي والأخلاقي والتربوي أيضا في جواب الامام، مع أن من البديهي ان الامام (عليه السلام) سيجتاز الصراط ويسلم منها.
إذن هذه الصفة ينبغي أن تكون من الصفات الملازمة لنا دائما وأبداً إن شاء الله.
وفي الختام، نسأل الله لنا ولكم أن نوفق أن نكون من العاملين بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبوصاياه بأكملها، وأوصيكم أن تبحثوا عن هذه الرواية، وعن الخصال ال 103 للمؤمن، في البحار وغيره، راجعوها وحاولوا أن تتزودوا منها، وأن نسعى لنتصف بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستعينين بالدعاء والصلاة على محمد وآل محمد.
الأسئلة والأجوبة
أم جواد/ عضوة في مؤسسة أنصار الحجة النسائية في الكويت:
كيف لنا معالجة من اتخذ الفكر الصوفي وعقيدتهم وهو صرح بذلك من باب الافتخار بهذا الفكر ويتبنى فلسفة وحدة الوجود والموجود وينادي بها؟ أيضا بعض الخطباء الذين لهم صيت وبأسلوب يجذب كثير من الشباب (الجامعي) للانجذاب إلى تلك الفلسفة في العقيدة؟
أجاب سماحته: هناك كتب جيدة في رد الأفكار المنحرفة، ككتاب (جدلية الدين والفلسفة) وكتاب (عارف وصوفي چه ميگويد)، وكتاب الشيخ النمازي عن (الفلسفة) وغيرها.
آمنة زوين/ عضوة في مؤسسة أنصار الحجة النسوية، النجف الأشرف:
كيف يمكننا استغلال مكان الدراسة (مثل الجامعة أو الوظيفة) في طريق أهل البيت، وكيف نجعل المحيطين بنا يتأثرون بدون نفور أو كلل من منهج آل محمد؟
أجاب سماحته: بالتشاور مع الشباب والشابات أنفسهم لأن لهم أفكارا خلاقة، وبالسؤال من متخصصي التربية، ومن محترفي التبليغ، وأيضا عبر مطالعة طرق وأساليب بعض المنظمات الناشطة بالجامعات من مختلف التوجهات فخذوا الصحيح واتركوا الخاطىء.
فاطمة معاش/ باحثة وكاتبة في مؤسة سلوني لنشر نهج البلاغة، ايران:
لقد أصبح شباب الشیعة يتهربون من تعلم العلوم الدينية، وأيضا أصبح حضورهم قليلا في المجالس الدينية والحسينية، ماهو رأي سماحتكم في علة هذه الظاهرة؟
وماذا نستطيع أن نفعل نحن كناشطات لتحفيز أولادنا وشبابنا في سبيل حل هذه الظاهرة؟
أجاب سماحته: معالجة هذه الظاهرة، كنظائرها، تحتاج الى برنامح مركب متكامل، ولكن من أولى الخطوات أن تطالعوا الروايات والآيات المحفزة وأن تبحثوا عن القصص المؤثرة اضافة إلى مطالعة كتب في علم النفس والتربية، ومنها كتاب الطفل وكتاب الشباب للشيخ الفلسفي، وكتاب الفضيلة الاسلامية للامام الراحل، فهي تمنحكم مقدرة كبيرة على ادارة الحوار مع بناتكم وأبنائكم وتوجيههم.
اضافة إلى ضرورة أن توجدوا لهم برامج تنافسية كالمسابقات والرحلات والندوات والضيافات الهادفة. وأيضا ابحثوا لهم عن أصدقاء فاعلين، ناشطين.
أم محسن معاش/ مسؤولة جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية، كربلاء:
إذا كان المؤمن جوال الفكر فلماذا لا يأخذ الشيعة جوالية التفكير كمنهج أساسي في الحوزات والجامعات والمدارس والمؤسسات؟
أجاب سماحته: كما أن من صفات المؤمن جوالية الفكر، كذلك من صفاته ماقاله تعالى: (والذين استجابوا لربهم... وامرهم شورى بينهم)، وكما أننا لو تمسكنا بآية الشورى تقدمنا ولو اهملنا الشورى تأخرنا، كذلك الفكر الابداعي وغيره من الصفات فعلينا السعي للعمل بكل ذلك.
أم فاطمة الحيدري/ مسؤولة مؤسسة وجمعية ومدرسة الحسن المجتبى، العراق:
إذا بقي الحال هكذا، كيف نطور أساليب التبليغ الديني؟
أجاب سماحته: التطوير بحاجة إلى تضخيم دائرة معارفكم ومعلوماتكم أولا وإلى التركيز ثانيا وإلى اكتساب مهارات الحوار والخطابة و... ثالثا، وإلى التخصص أي تفريغ البعض لذلك رابعا.
جنان الرويشدي/ مدّرسة وناشطة اسلامية:
إذا كان أهل الدين وبعض الشيوخ في الحوزات الدينية وبسبب سوء أخلاقهم جعلوا كثيراً من الطلبة يتخلون عن الدراسة الحوزوية والابتعاد عن الدين والعلم وكذلك بعض المعممين السياسيين، ماذا يمكن أن نعمل تجاه هذه المشكلة مع الشباب؟
أجاب سماحته: الفصل الواضح بين الفكر الصحيح وبين الأشخاص، إذا عرفت الحق تعرف أهله، وأيضا تجسيد القدوات الصالحة أمامهم، فيجب أن تطالعوا كثيرا ليمكنكم تفعيل ذلك.
زينب الأسدي/ قسم الهيئة الادارية في حوزة كربلاء النسوية:
ما هي نظرتكم للإبداع من منظور (جوّالية الفكر) في المناهج الحوزوية التي باتت تعاني من ويلات المنافسة التربوية مع باقي المناهج العلمية العالمية التي تخضع للتنقيح أولا بأول من قبل المختصين المعنيين كلّما اقتضى الأمر؛ بينما مناهجنا نأخذها كما هي منذ مئات السنين؟ ألم يحن الوقت للتحديث من قبل لجان تخصصية في هذا المجال ليسهل التعامل مع المتلقي في القرن الواحد والعشرين؟
أجاب سماحته: الحوزة تخصصات فبعض أولويته الفقه والأصول والبعض التفسير والحديث، وهناك توجه قوي تربوي بدأ ينمو في الحوزة أكثر فأكثر كما طرحت كتب جديدة منوعة ويمكنكم أيضا الإسهام بأفكاركم وبعملكم أيضا فمثلا من الممكن أن تقدموا دراسات أو بحوثا في هذا الحقل.
أم سليمان/ خطيبة من الكويت
لقد انتشر الفكر الليبرالي بشدة بين أوساط الشباب بشكل كبير، وأخذوا يقرؤون كتبهم وينشرونها في المجتمع، فهل (جوالية الفكر) في حل هذه المشكلة هو الرد المفصل لكل فكرة ورأي للفكر الليبرالي والعلماني، أم أن هناك آلية أخرى لإنقاذ الشباب من الأفكار المشككة للدين؟
أجاب سماحته: الحلول نظرية وعملية، النظرية تقارع الحجة بالحجة فيجب مثلا مطالعة كتب الكلام كحق اليقين للسيد شبر وأصول الكافي وأيضا كتب رد الهرمنيوطيقيا وغيرها، وكتابة كتب ودراسات منوعة لمختلف المستويات نقضا وحلا.
وعمليا؛ للشباب حاجات فيجب تلبيتها وإلا صاروا فريسة الشرق والغرب وأحسوا بالضياع فبحثوا عن الاشباع في أمثال الليبرالية.
من الحاجات: البيت السعيد والزواج والعمل المناسب وتوفير أجواء يمكنه / يمكنها فيها العطاء كي يحس/تحس بالجدوائية.
* وجدير بالذكر أن هذا الاجتماع يهدف إلى التقارب والتعارف والتعاون بين المؤمنات الناشطات فيما بينهنّ.
اضافةتعليق
التعليقات