مشاهد حياتية تتكرر يومياً من أناس لهم رب كخالق هذه الأرض والسماء، هم بلسان المقال يُعرفون بأنهم من أهل الايمان والتوكل إلا إنهم على مستوى لسان الحال هم أهل شكاية.. تحسر...وجع.. وظلمة وتظلم! وجوههم مقطبة، وأرواح بلا حركة وهمة.
وكأن لا شيء جيد في هذه الحياة! وكأن الحياة كلها مركونة في زاوية واحدة.. واحدة فقط هي تلك التي فيها الشيء المفقود من النعم في حياتهم مع أن حياتهم زاخرة بالنعم والعطايا الالهية، لكن ذلك الشيء غطى على رؤية كل تلك النعم، وأظهر وجه التغافل لديهم عن حقيقة وجودها وتنعمهم بها، فهم من مصاديق قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا...}(النحل: 83).
حيث يعاني مثل هؤلاء بما يمكن أن نُعبر عنه ب "أنانية الراحة" فهم تارة يريدون أن يحتفظوا بالراحة والسعادة لأنفسهم بما يملكون من النعم التي قد أنعم بها المولى عليهم، مع عدم اظهار الشكر والامتنان على وجودها وإنما يفعلون العكس، فلا يذكرون إلا ما لا يجدونه في حياتهم؛ وبالتالي يبثون ما يؤثر سلبا على نفسية المقابل الذي يستمع إلى شكاياتهم وتركيزهم على ما هو مفقود فقط.
وتارة أخرى يكون هكذا سلوك نابع من شحة تلك النفوس فهؤلاء يتظاهرون بذلك الحزن والأسى ويبدون الشكاية خوفا من الحسد، يخشون فقد النعم إذا ما علم بوجودها غيرهم.
فهذا ليس سوء ظن تجاه الأخرين فقط بل كما عبر الأمير (عليه السلام) سوء ظن بالمعطي بالدرجة الأولى حيث قال أمير الوجود (عليه السلام): "الْبُخْلُ بِالْمَوْجُودِ سُوءُ الظّنّ بِالْمَعْبُودِ"(١)، أي الذي هو وحده القادر على إبقاء النعم أو سلبها لا غيره، كما قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:107)، فالبخل ليس في أن لا تعطي على المستوى المادي من تلك النعم فقط بل أن لا تكون نِعم الله تعالى ظاهرة عليك- فهذا وجه من وجوه العطاء لكن المعنوي للمقابل.
لذا هم بالنتيجة لن ينالوا الراحة الحقيقية بل هي راحة موهومة لأن دائرة السوء التي يبثون خيوطها على غيرهم ستحيط بهم أيضاً، وسيصبح هذا السلوك فيهم طبع لا يمكن ازالته، حيث ينطبق عليهم قوله تعالى: {... الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ...} (الفتح:6)، هذا على مستوى الأثر الشخصي على هكذا فعل، وعلى المستوى العام فهم يعطون صورة عن ربهم صاحب المنّة والفضل عليهم لا تليق بهم كعباد للرحمن.
ففهم هذه الحقيقة شيء مهم ومؤثر ونافع لجعل الحياة طيبة وسعيدة ومريحة أكثر للجميع إذا ما انتفت هذه الحالة وتحقق العكس وذلك على المستويين:
الأول: على المستوى الشخصي لأن إظهار الشكر على ما موجود من نِعم يوجب لهم دوامها كما نعلم، بل ويبلغون الاستزادة أيضا.
الثاني: على المستوى العام لأنهم مظهر من مظاهر تجليات صفات الله تعالى في الأرض وأفعاله، ونحن نعيش في زمن النفور من التدين والارتباط بالله تعالى، والذي أصبح كبير- وكما يُذكر- إن عدم وجود هذه الجنبة في اهل التدين والايمان سبب من الأسباب الأساسية في حصول هذا النفور.
فالنفوس البشرية تميل دائما للنفوس التي تتسم بالبهجة، والوجه البشوش ذات الكلمة الطيبة، والأفعال الحسنة، لا أصحاب التظلم والشكاية، الذين لا ترى في وجوههم سوى الأسى والتعب، فظهور الراحة علينا وإظهار مدى تحقق السعادة والراحة بما انعم الله تعالى به علينا من نعم مادية ومعنوية هي المصداق الاوضح لتحقق الحمد والشكر العملي فينا، والذي نكون به دعاة للأخرين للانجذاب للدين والارتباط بالحق، لا العكس! بل والانتفاع من تديننا على المستوى الشخصي نكون قد حققناه بالدرجة الأولى.
لذا من الجميل أن يكون الانسان شاكراً ومُظهراً ومَظهراً لكل ما اعطي من نِعم المتعالي الجليل، بل وينبه غيره عما لديهم من نِعم.
____
اضافةتعليق
التعليقات