كانت الأعوام تَمُرّ، والسنوات تنقضي، وحياة الزهراء مشفوعة بالحوادث والمآسي، وقد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة وإذا بفاجعة تطل على حياتها، وتخيم الهموم وتتراكم الأحزان على قلبها، وهي وفاة أمها السيدة خديجة، تلك الأم البارة الحنون التي كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة فاطمة العزيزة نظرة حزن وتألم وتأثر لأنها تعلم أن الزهراء ستفجع بأمها العطوفة الرؤوفة.
كانت السيدة خديجة طريحة الفراش، وقد خيم عليها شبح الموت، فدخل عليها رسول الله وهي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهن السلام! قالت: من هُنَّ يا رسول الله؟ قال: مريم بنت عمران، وكلثم، وآسية امرأة فرعون. فقالت: بالرفاء يا رسول الله.
وكان رسول الله يقول: أمرت أن أُبشـر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
قال ابن الأثير في (النهاية): القصب في هذا الحديث لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف والصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام.
كانت السيدة خديجة تتأوه وتبكي فقالت لها أسماء بنت عميس: أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين؟ وأنت زوجة النبي؟ مبشرة على لسانه بالجنة؟ فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بد لها من امرأة تفضي إليها بسرها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ !
فقالت أسماء: يا سيدتي لك عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر .
وفارقت السيدة خديجة الحياة، وعمرها ثلاث وستون سنة فكانت وفاتها ضربة مؤلمة على قلب الرسول، وخاصة وأن النبي قد فجع بعمه أبي طالب بعد أيام أو شهور من وفاة السيدة خديجة فازداد حزناً، حتى سمى تلك السنة (عام الحزن) لأنه أُصيب بمصيبتين عظيمتين على قلبه البار: مصيبة زوجته خديجة، لا لأنها زوجته فقط، بل لأنها أول من صدقته بالنبوة، ولأنهـا كـانت زوجة ومعاضدة ومساعدة ومحامية لزوجها، لأنها وهبت الآلاف المؤلفة من أموالها في سبيل الإسلام، لأنها كانت تحمل شخصية فريدة من نوعها في مكة، بل في نساء العرب.
ولما أصيب رسول الله بوفاة السيدة خديجة وعمه أبى طالب عزم على الهجرة من مكة، وأمر عليا أن يبيت على فراشه تلك الليلة، وسميت تلك الليلة: ليلة (المبيت وهي الليلة التي اجتمع فيها حوالي أربعين أو أربعة عشر رجلا من المشركين، وطوقوا بيت الرسول، وهم يريدون الهجوم على النبي ليقتلوه في بيته، فخرج النبي إلى الغار، وبقيت السيدة فاطمة في البيت، وهي تتوقع هجوم الأعداء على دارها في كل ساعة وتستمع إلى هتافات الكفر والإلحاد ضد الرسول، ويعلم الله مدى الخوف والقلق المسيطر عليها طيلة تلك الليلة، وهي تعلم خشونة طباع المشركين وقساوة قلوبهم، فيكون أسوء الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات وإلى أن أصبح الصباح من تلك الليلة، وهجم القوم في الدار شاهرين سيوفهم كأنهم ذئاب ضارية أو كلاب مستسبعة تطلب فريستها، وقصدوا نحو فراش النبي فلم يجدوه بل وجدوا عليا الله راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول الله، فخابت ظنونهم، وخرجوا من الدار فاشلين، وكادوا أن يتفجروا حقداً وغيظاً وغضباً.
فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات وأكثرها خوفاً وفزعاً على قلب السيدة فاطمة الزهراء ويا ليت الأمر كان هنا، ولكن أحقاد الكفر كانت كامنة في الصدور كأنها جمرة تحت رماد، ولما خرج أمير المؤمنين بالفواطم من مكة وهُنَّ فاطمة الزهراء بنت أسد (أم أمير المؤمنين) وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، واعترضهم في أثناء الطريق للحيلولة دون الهجرة، وكان الموقف حرجاً، واستولى الرعب والفزع على قلوب الفواطم من الأعداء، وكادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة الإمام علي وبطولته المشهورة، وكفاهم الله شر الأعداء، ونجا علي والفواطم بقدرة الله تعالى.
وصلت الفواطم إلى المدينة، وقد كان رسول الله قد سبقهم إليها، وكان ينتظرهم، ولما وصلوا دخل النبي المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، والتحقت به ابنته فاطمة الزهراء، ونزلت على أم أبي أيوب الأنصاري كانت السيدة فاطمة الزهراء تعيش تحت ظل والدها الرسول في المدينة بعد أن مرت بها عواصف شديدة وحوادث مؤلمة، من موت أُمها خديجة وهجرة أبيها الرسول من وطنه ومسقط رأسه، وهجوم الأعداء على الدار، وهجرتها من مكة إلى المدينة، ومطاردة الأعداء لها، فهل انتهت تلك الحوادث والمصائب؟
کلا، بل كانت تلك القضايا بداية مآسي أُخرى، وكوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة على الهجرة وإذا بالمشركين يجتمعون في مكة ويقصدون التوجه إلى المدينة لمحاربة الرسول والمسلمين، فنزل جبرئيل وأخبر النبي بالمؤامرة، وخرج الرسول بالمسلمين من أهل المدينة وبمن التحق به من المهاجرين من أهل مكة، خرج بهم ليستقبل العدو في أثناء الطريق قبل وصولهم المدينة، فوصلوا إلى منطقة بين المدينة ومكة يقال لها (بدر) وهناك التقوا بالمشركين، وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن كانت الغلبة والانتصار للمسلمين والهزيمة والاندحار للمشركين، فرجع النبي إلى المدينة مظفّراً منصوراً .
اضافةتعليق
التعليقات