تمرُ عليك أيام متناقضة، يوم مبهج مترعٌ بالفرح والحبور تظن أنك لن تحزن بعده أبداً، ثم تشاءُ حكمة الأقدار أن تُذيقك من بعد عُلوّك هبوطاً مُرّاً، فتخوض غمار أيام عصيبة تظن أن لا فرج بعدها. وهكذا تخدعنا أنفسنا بالحتمية الزائفة، تهوّل لنا الألم، وتأخذُ الفرح على محمل الأبدية، فلا ننجو من الأول، وننخدع بالثاني.
تضعك بعض الأيام على طرفيّ نقيض في نفسك، فتعيشُ حالةً من شلل الاستيعاب. شتان ما بينَ الأمسِ و اليوم، بين الاتقاد والانطفاء، ربما هو مُجرد فرق في التوقيت بين اليوم الذي مضى والذي تلاه، سويعاتٍ معدودة تفصِل بين كلاهما، تبديل في أرقام التواريخ، ازديادها رقماً ليس إلا، دورةٌ أرضٍ جديدة تتخذها حول نفسها فتوُدعُ قمراً وتستقبلُ شمساً، أو إنهُ فرقٌ في الطقسِ وحسب، بضع درجاتٍ ازدادت أو نقُصت، بدايةٌ صباحيّة مختلفة، اختلاف في عدد نبضاتِ القلب وأنفاس الصدر.
ربما هي تغيراتٌ طبيعية لا فرقٌ شاسع بينها، لكنه هو ذاته الذي يُحدث تغييرات هائلة، كالفرق بين درجة حرارة أقرب الكواكب من الشمس وأبعدها عنها، الفرقُ بين مشرق النور ومغربه، بين الحلاوة والمرارة، بين هديرُ حمامةٍ وعواء ذئب، بين دفءٍ وزمهرير.
إنهُ ببساطة الاختلاف بين الحياة والموت، كنتَ بالأمس تحسب نفسك في عداد أهل الجنة، كأنه لم يكن يوماً من أيامِ أهلِ الأرض، ربما يومٌ سقطَ سهواً من أيام ملائكة السماء فهطَلَ كأنه الرحمة الإلهية لتتشربه الروح قطرةً قطرة وتقبّل جبينَ السماء التي جادتْ به عليها فأسعفتها من الاحتضار عطشاً. يومٌ يشبه ورقة حبَق انسلّت من بين ذرات تُربةٍ نديّة لتُعانق الضياء الخارجي، أو كبرعم زهرةِ ليمون لاحَ لهُ الربيع ففاح عطرهُ في الأرجاء يملئ الدُنيا غروراً.
إننا نجهلُ كيف يبُثُ القدير القوة في قلوبِ مخلوقاته ليواصلوا الحياة بمرارتها بعد أن يُذيقهم طعم الشهد؟ كيف يستمرون في التنفس من هواء هذه الدُنيا بعد أن استنشقوا نسيم الجنّة؟ كيف لهم أن يرجِعوا إلى الظُلُمات بعد أن يُبصروا النور؟
إنها لتحولاتٍ هائلة تحفِرُ في الكيان آثارها وتنقُش في القلب زخارفها وتصنعُ العجائب في أقصر مدة زمنية. لستُ أدري كيف يصمُدُ هذا الجسد بعد أن تحِلُ عليهِ ريحٌ ناقمة تحاول اقتلاع الصبر من جُذوره لتُحيلهُ جذعاً خاوياً لا يُتكأ عليه، كيف يتجدد هذا التحمل كل مرة وكُلما أوشكتُ على الطوفان فُرّغتُ من جديد استعداداً لرحلةٍ أُخرى من الامتلاء.
يُخيّل إلينا أن هذه الأرضٌ قد تُحالُ لجنةٍ لو أن الأمور أوُكلت لنا، لو كان لنا حق اختيار الأقدار التي نظن أنها تناسبنا، لو كان لنا القدرة على التشبث باليد التي نعتقد أنها تمُدنا بالحياة، لو نتخلص من كل شخص لا نرغب بوجوده بيننا، لو غيرنا المسارات التي نشعر أنها لا تُناسبنا، لو تراجعنا عن أي خطوة بسهولة، لو نغير مجال دراستنا، ونرفض الوظائف ونلغي عقد زواج ونجهض حملاً ونُلغي سفراً، لتحوّلت أيامنا إلى نعيمٍ مقيم لا يعكر صفوها شيء. خيالات واسعة تهطلُ على عقولنا القاصِرة، نظن ونظن ونخطط، ولا نعلم أن الخير كل الخير في أقدار الله، في الأمر الذي لم يعجبنا ذاك، في الفراق الذي أبكانا شهوراً، في الحرمان الذي جعلنا نشعرُ بالخيبة، وبالعثرات التي كادت تجعلنا نتراجع. كلُ ما يضعه الله في طريقنا لسبب، كلُ ما يحصل معنا لا صُدفة فيه، أدقُ الخطوات والتفاصيل مُقدّرة بعناية فائقة نعجزُ عن فهمها إلا بعد حين، فكيف الجزع ونحنُ في أمانةِ إلهٍ لا يغفلُ عنا مقدار طرفة عين!.
اضافةتعليق
التعليقات