يُعَدّ الطفل النواة الأساسية لأيّ مجتمع، والمرحلة التي تُبنى عليها كل القيم والاتجاهات والسلوكيات المستقبلية. ومن هنا، تبرز أهمية عملية التنشئة الاجتماعية باعتبارها الإطار الذي يدمج الفرد في المجتمع ويغرس فيه قيمه وثقافته، ويسهم في بناء شخصيته.
فكتاب “الطفل والتنشئة الاجتماعية” لمجموعة من الباحثين المصريين يقدّم رؤية شاملة حول هذه العملية، من خلال تحليل التراث الشعبي، والأنماط الأسرية، والدراسات الميدانية، وصولًا إلى المدرسة والطبقات الاجتماعية.
أولاً: الطفل في التراث الشعبي
يتناول الفصل الأول صورة الطفل في الذاكرة الشعبية، ويكشف أن التراث لم يكن مجرد قصص وأهازيج، بل منظومة كاملة توجّه مسيرة الطفل منذ الميلاد وحتى البلوغ:
المعتقدات الشعبية: تُحيط الطفل بسلسلة من الطقوس (مثل التسمية، الأسبوع، الفطام) التي تُدخله إلى المجتمع رسميًا.
العادات والتقاليد:
الأدب الشعبي: يشمل الحكايات التي تُغنّى للأطفال وتغرس فيهم الشجاعة أو الخوف أو الحذر.
الثقافة المادية: الألعاب التقليدية التي تُصنع يدويًا وتُستخدم كأدوات للتعلم المبكر والتفاعل.
وهنا، يُبيّن الكتاب أن هذه الممارسات لم تكن اعتباطية، بل هدفها الأساسي هو حماية الطفل من الأخطار وتعريفه تدريجيًا بالمعايير الاجتماعية.
ثانيًا: مفهوم التنشئة الاجتماعية
في الفصل الثاني، يعرض الكتاب الإطار النظري للتنشئة الاجتماعية باعتبارها:
عملية تعلم وتعليم اجتماعي: يكتسب فيها الطفل القيم والمعايير الاجتماعية.
عملية ضبط اجتماعي: تُحدّد المقبول والمرفوض في السلوك.
عملية تكامل: تدمج الفرد في المجتمع وتحدّد أدواره المستقبلية.
ويُشير إلى أن التنشئة لا تتم في فراغ، بل تتأثر بعدة جوانب، منها:
الأسرة: المصدر الأول للقيم.
المدرسة: مؤسسة رسمية لنقل المعارف والانضباط.
وسائل الإعلام: مؤثر غير مباشر، لكنه قوي.
الجماعات الرفاقية: تعلّم الطفل التفاعل الندّي والمساواة.
المؤسسات الدينية: غرس القيم الروحية والأخلاقية.
ثالثًا: دراسة أنثروبولوجية مقارنة
يعرض الفصل الثالث مقارنة بين التنشئة في مجتمع بدوي وآخر ريفي:
في المجتمع البدوي: يكون التركيز على قيم الشجاعة، والفروسية، والاعتماد على النفس، والتدريب المبكر على الرعي والتنقل، والولاء للجماعة والقبيلة.
في المجتمع الريفي: التعاون الأسري، والعمل الجماعي في الزراعة، والطاعة والانضباط، وارتباط الطفل بالأرض والموارد المحلية.
تُظهر الدراسة أن التنشئة مرآة للبيئة الاقتصادية والاجتماعية، فالطفل يُهيّأ منذ صغره للقيام بالأدوار التي يحتاجها المجتمع المحيط.
رابعًا: أنماط الرعاية الأسرية
في هذا الجزء، يُحلّل الكتاب الأسرة المصرية عبر جداول استخدام الوقت، وتبرز النتائج:
الأسرة تظل الملاذ الأول لرعاية الطفل.
توزيع الوقت بين الأم والأب يحدد نوع الرعاية (عاطفية/اقتصادية).
الأسرة تواجه ضغوطًا جديدة بسبب التحولات الاقتصادية، لكنها ما زالت المؤسسة الأهم في الضبط الاجتماعي.
الأسرة إذًا تقوم بوظيفتين متوازيتين:
الحماية والرعاية: إشباع الحاجات الأساسية.
إتاحة الاستقلال التدريجي: تهيئة الطفل لتحمّل المسؤولية.
خامسًا: الحكايات والقصص كأداة للتنشئة
يرى الكتاب أن الحكايات الشعبية تلعب دورًا محوريًا في التربية، خصوصًا في المجتمعات الريفية والحضرية.
فالقصص تُستخدم لنقل قيم مثل: (الصدق، الشجاعة، الولاء، الحذر)، وتُروى في جلسات عائلية، ما يجعلها أداة تعليمية غير رسمية.
كما أن الحكايات تربط الطفل بالتراث، وتمنحه شعورًا بالانتماء الثقافي.
فهي ليست مجرد تسلية، بل وسيلة للتنشئة النفسية والاجتماعية والثقافية.
سادسًا: المدرسة كمؤسسة اجتماعية
يُخصّص الكتاب فصلًا للمدرسة باعتبارها مؤسسة التنشئة الثانية بعد الأسرة، والتي تلعب دورًا أساسيًا.
وظائف المدرسة:
نقل المعرفة الأساسية.
تعليم الانضباط واحترام القوانين.
توفير بيئة للتفاعل مع الأقران والأقارب.
إعداد القوى العاملة بما يتناسب مع احتياجات المجتمع.
كما يوضح البُعد الاقتصادي للتعليم، فليست المدرسة مجرد وسيلة للتعليم، بل لإنتاج أفراد قادرين على المساهمة في التنمية، مما يُسهم في الحراك الاجتماعي، ويمنح أبناء الطبقات الفقيرة فرصًا للصعود.
سابعًا: الأحداث والطبقة العاملة
في الفصل الأخير، يناقش الكتاب العلاقة بين ظروف الطبقات العاملة وأسلوب تنشئة الأطفال، إذ يشارك الكثير منهم مبكرًا في العمل الاقتصادي.
هذا الواقع يؤدي إلى:
حرمان الطفل من التعليم.
انخراطه في بيئات قد تُعزز السلوك المنحرف.
ارتفاع معدلات جنوح الأحداث في بعض المناطق.
ويؤكد الكتاب أن التنشئة في بيئات الفقر تعكس خللًا بنيويًا، وتحتاج إلى سياسات اجتماعية داعمة لتقليل الفجوة.
خاتمة الكتاب، من خلال الفصول السبعة، يُلخّص الكتاب إلى أن
التنشئة الاجتماعية عملية متعددة المستويات: تبدأ بالأسرة، وتستكمل بالمدرسة، وتُعزّز بالمجتمع.
هي ديناميكية: تتغير مع التغيرات الاقتصادية والسياسية.
هي انتقائية: تنتقي من التراث ما يدعم القيم، وتستجيب للحداثة بما يضمن التكيّف.
هي حساسة للطبقات: تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية.
وفي النهاية، يبرز كتاب “الطفل والتنشئة الاجتماعية” قيمة علمية بالغة، إذ يجمع بين التحليل النظري، والدراسة الميدانية والثقافية.
والرسالة الأساسية التي يُقدّمها هي أن الطفولة استثمار اجتماعي طويل الأمد، وأن التنشئة ليست مهمة الأسرة وحدها، بل مسؤولية المدرسة والمجتمع والدولة، فأيّ خلل في هذه المنظومة ينعكس مباشرة على تكوين الأجيال المقبلة.
وبذلك، يضع الكتاب القارئ أمام حقيقة حاسمة، وهي أن مستقبل المجتمعات يتحدّد في سنوات الطفولة، وأن العناية بالطفل هي، في جوهرها، عناية بمستقبل الأمة كلها.
اضافةتعليق
التعليقات