“قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً”. (الكهف: 103-104).
تُشكّل هذه الآية الكريمة قاعدة فكرية وأخلاقية مهمّة لفهم ظاهرة الانحراف في السعي الإنساني. فهناك من يكدّ ويعمل، بل ويستميت في طريق يظنه صواباً، بينما هو في حقيقته طريق ضياعٍ وهلاك، لأنه لا يقوم على قاعدة صحيحة من الهدي والحق. هذه الدلالة القرآنية تفتح أمامنا باباً واسعاً للتأمل في ظاهرة “صناعة الشخصيات الفارغة” التي غزت فضاءات الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي في عصرنا الحاضر.
إن مفهوم “الشخصيات الفارغة” والتي نقصد بها أولئك الأفراد الذين يصنعون حضوراً وهمياً على المنصات الرقمية، دون قيمة فكرية أو أخلاقية أو معرفية، مكتفين بإثارة الضجيج والاستعراض المظهري، بهدف الحصول على الشهرة الزائفة أو المال السريع. هذه الشخصيات تبني “سعيها” على اللاشيء، بل وتُسَوّق بضاعتها الرديئة باعتبارها نجاحاً وتفوّقاً، وهو عين ما تشير إليه الآية: “وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً”.
إن الجذور الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن إنكارها فالفقر المدقع والحرمان الاجتماعي يعدّان من أبرز الدوافع التي تدفع بعض الأفراد إلى اقتحام هذا العالم الرقمي بحثاً عن رزقٍ أو فرصة. غير أن ما يُثير القلق هو تغليف هذه الممارسات بغطاء “المظلومية” أو “الاستعطاف”، وكأنّ الحاجة الاقتصادية تُبرّر الانحراف الأخلاقي أو السلوكيات الممنوعة شرعاً. ولابد أن نعي بأن الإسلام قد اعترف بالضرورات وراعى الفقر والحاجة، لكنه لم يجعل منها ذريعة لابتكار طرق محرّمة أو مفسدة لكسب المال.
ولو نظرنا لهذا الموضوع فهو إشكالية الكسب غير المشروع يُظهر الواقع أن كثيراً من هؤلاء يدخلون في أنشطة مرفوضة مثل
الترويج للمحتوى المبتذل.
الاستغلال العاطفي أو الجسدي تحت مسمى “الترفيه”.
عرض خصوصيات الأسرة والمجتمع في سبيل المشاهدات.
هذا النمط من الكسب لا يندرج ضمن الرزق الحلال، بل يقترب من مصاديق “المال الخبيث” الذي ورد في النصوص الشرعية التحذير منه.
وهناك بدائل مشروعة كثيرة ولهذا يبرز السؤال المركزي: هل أُغلقت أبواب الرزق إلا بهذا الطريق؟ والجواب: لا. فالبدائل كثيرة ومشروعة، منها:
1. العمل الحر والإبداع الرقمي: عبر إنتاج محتوى معرفي أو تعليمي أو تجاري نافع.
2. المشاريع الصغيرة: التي يمكن أن تبدأ من مهارات بسيطة وتكبر بالتدرّج.
3. التعليم والتأهيل المهني: وهو مجال واسع يفتح أبواباً للكسب الحلال.
4. العمل التطوعي: الذي يُبنى عليه لاحقاً ثقة اجتماعية تؤهل صاحبه لدعم أو وظائف أو فرص.
وهناك أبعاد كثيرة مثل البعد الأخلاقي والروحي
الآية الكريمة لا تكتفي بالإشارة إلى ضلال السعي، بل تكشف عن مأساة أخطر: أن الإنسان قد يضل ويظن في الوقت نفسه أنه على صواب. وهذا ما يجعل “الشخصيات الفارغة” تتصوّر نفسها رموزاً للنجاح بينما هي في حقيقتها عنوانٌ للفراغ. إنّ هذا الانحراف يُفقد الإنسان قيمته وكرامته، ويحوله إلى سلعة في سوق الاستعراض.
من هنا يتضح أن مواجهة صناعة “الشخصيات الفارغة” لا يكون فقط عبر النقد والرفض، بل عبر بناء بدائل إيجابية تعيد توجيه الشباب إلى قنوات صحيحة، وتؤسس لثقافة رزقٍ يقوم على الحلال، ويجمع بين الكرامة الإنسانية والجدوى العملية. فالآية الكريمة تظل نداءً عابراً للأزمان: لا تجعلوا من سعيكم وهماً، ولا تنخدعوا بالسراب؛ فالمعيار الحقّ هو أن يكون السعي قائماً على الهدى، والرزق مستمداً من الطيب لا من الخبيث.
اضافةتعليق
التعليقات