كان الظلام ينسحبُ من سماء كربلاء كستارةٍ، والليلُ ينحني خجلاً أمام قدوم الفجر، لكن هذا الفجر لم يكن فجراً عادياً، بل كان بزوغَ نورٍ من عالم الغيب، نورٍ يُنادي الروح قبل الجسد. خطوتُ باتجاه المشرق، وكأنما الأرضُ تقلّني على أجنحة الشوق، وقلبي يُنازع بين الخوف واللهفة، بين هيبة المنتظر ولهفة الواصل. لم أكن أعلم أن تلك الخطوات ستقودني إلى حرم تُسبّح جدرانه، وتتنزّل فيه الرحمة كالمطر على الأرواح العطشى.
توقفتُ عند أبواب المدينة المقدسة، فاستقبلني عطرٌ لم تُدركه أنفاسُ البشر، كأنه نسمةٌ من فردوسٍ خفي، يملأُ الروحَ ويغسل الذنوب قبل الأجساد. شممتهُ، فذابت همومي، وتذكّرتُ كل دمعةٍ سقطت في محرابي، وكل دعوة خرجت من أعماق قلبٍ منكسر. هنا، عند باب الإمام الرضا (عليه السلام)، تُحَطُّ الأثقال، وتُرفَع الأكفُّ بخشوع، وكأنما الحرمُ ينطق: "أهلاً وسهلاً بزائرٍ يحبنا ونحبّه".
دخلتُ الحرمَ المطهر، فإذا النورُ يغمر كلَّ شيء، نورٌ ليس من شمسٍ ولا قمر، بل هو نورٌ من نور الله، نورُ وليٍّ أذِن له ربُّه أن يكون ملاذ العباد. نظرتُ إلى القبةِ الشريفة، وسقطت دموعي حروفاً من حكاياتٍ طويلةٍ من الشوق، وكأنما الإمام (عليه السلام) يمسحُ على جبيني ويقول: "كفاك حُزناً، لقد وصلت!". ثم جلستُ في زاويةٍ من زوايا الحرم، أسمع همسات الزائرين، كلهم يبكون ويشتكون، وكلهم يعلمون أنهم عند مَن لا يردُّ أحداً، يناجون: "يا غياثَ المستغيثين"، "يا بابَ الله المفتوح"، وصلواتٌ تتعالى، وأدعيةٌ تُرفع، وكأن الأجواء كلها ترتجف بين يدي الحبيب. الزمنُ هنا يتوقف، والدنيا تذوبُ كسراب، فلا وجودَ إلا لهذا المقام، ولا صوتَ إلا صوتُ القلبِ المنكسر بين يدي الإمام.
لم أدرِ متى غلبتني عيناي، ولكني صحوتُ على أذان الفجر، وأنا في فراشي، كأنما الرحلة كلها كانت حلماً، لكن العطرَ الإلهي ما زال يُحيط بي، ودفء تلك اللحظات ما زال يغمر روحي. فأدركتُ أنها لم تكن رؤيا، بل كانت زيارةً من نور، أو هي إجابةٌ لدعوةٍ قديمةٍ من القلب: "يا رب، أرِني وجهَ حبيبك".
واليوم، وأنا أكتبُ هذه الكلمات، أعلمُ أن قلبي لم يَعُد ملكي، فلقد تركتُه هناك، عند الضريح المقدس، بين يدي قول الإمام الكاظم (عليه السلام): "مَن زاره أو بات عنده ليلة، كان كمن زار الله في عرشه". فزيارةُ الإمام الرضا (عليه السلام) ليست مجرد سفرٍ للأجساد، بل هي رحلةُ الأرواح إلى بيتها، لقاءٌ مع حبٍّ لا ينتهي، ونورٍ لا يغيب.
فيا من تبحث عن الأمان في زمنِ الخوف، ويا من تئنّ من وحشة الدنيا، ائتِ حرمَ الرضا (عليه السلام)، فما من خائفٍ أتاه إلا وآمنه، ولا مكسورٍ إلا جَبَره، ولا تائبٍ إلا احتضنه. هو بابُ الله الذي لا يُغلق، وهو غياثُ مَن لا غياث له، في زمنٍ تطغى فيه الماديات وتغيب فيه القيم. لتبقى سيرةُ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) شمعةً تضيء دروبَ المحبة والحكمة، وتُذكّرنا بأن العظمة الحقيقية ليست في السلطة أو الجاه، بل في الإيمان العميق، والعطاء اللامحدود، والصبر الذي يبلغ عنان السماء.
فكيف لا يكون سفيرَ المحبة، وهو الذي فتح قلبه للخلق جميعاً، يعلمهم، يرشدهم، ويخفف آلامهم؟ فلقد جسّد اسمَه حقيقةً عظيمة: أن الرضا ليس مجرد قبولٍ بالأمر الواقع، بل هو حالةٌ من اليقين بأن كلَّ شيء بقدر، وأن العبودية لله هي أعلى مراتب الحرية.
فقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) كالغيثِ الذي ينزل على أرضٍ قاحلة، يروي العقولَ بالعلم، والقلوبَ بالإيمان، ويهدي النفوسَ الحائرة، رغم أن حياته كانت سلسلةً من التحديات والمحن، من الظلم السياسي الذي تعرّض له، إلى محاولات تهميشه وإبعاده عن دوره القيادي، وصولاً إلى اغتياله المأساوي بالسم. لكنه، في كل هذه المحن، كان المثالَ الأعلى للصابر الشاكر، الذي لا يجزع، ولا ييأس، بل يتحول ألمه إلى نورٍ يهدي الأجيال.
فإنْ سألتَني: كيف عدتَ منه؟
سأقول: عدتُ بقلبٍ جديد، وروحٍ تُنادي:
"لقد رأيتُ النور، فلا أعودُ إلى الظلام".
فمن زار الرضا (عليه السلام) عارفاً بحقه، فقد وجد كنزَ الدنيا والآخرة، فهو حبيبُ القلوب وسيدُ العارفين. فمن يبحث عن الأمان في زمن القلق، وعن النور في ظلمات الحياة، فها هي مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) تُعلّم القلوبَ كيف تُحب، وتُربّي الأرواحَ على التقوى والعرفان. فالإمام الذي تُسبّح الأرضُ له، لم يكن إماماً عادياً، بل كان مظهراً لأسماء الله الحسنى. فمن نظر إليه بتعظيمٍ رأى في سَمْته هيبةَ الأنبياء، وفي عينيه رحمةَ الأولياء، وكان إذا ذُكر اللهُ ارتعدت فرائصُه، وإذا توضّأ اصفرّ لونُه من خشية الله. لذلك كان هو بابَ الله الذي لا يُغلق، فسمّي "غياثَ المستغيثين"، لأن كل ملهوفٍ ناداه وجده أمامه، وكل مكروبٍ استجار به أزال اللهُ كربه.
وقد قال الإمام الجواد (عليه السلام) عن أبيه الرضا: "ما زار أبي أحدٌ فأصابه أذًى من مطر أو برد أو حرّ، إلا حرّم الله جسده على النار".
فسلامٌ على أنيس النفوس ومنقذها من ضلالة الفكر وضياع النفس، سلامٌ على سلطان الأولياء وقرةِ عين المؤمنين، سلامٌ على من قيل فيه:
هذي فضائلُه كالشمسِ طالعةً
لم يعشُ عن ضوئِها إلا الذي تاها
فإنّه من كرامٍ طاهرين، لقد
صفّى ذواتَهمُ الباري وزكّاها
وإنهم فُلكُ نوحٍ فاز راكبُها
وخابَ تاركُها، والنارُ يصلاها.
اضافةتعليق
التعليقات