ما إن استدرتُ حتى ظهر أمامي من جديد، كان ينظر نحوي بشرود، يقلّب عينيه على ملامحي.. أخاف أن أتقدّم فيختفي كالمرّة السابقة، وأخاف أن أتكلّم فلا يجيبُ، ويتركني حيرى بين ظنوني ومتاهات أفكاري.. كان يقف في مكان اشبه بصحراء جافاها الماء وخاصمتها الغيوم وتوسطت السماء شمس انعكست اشعتها على وجهه فلم اعد ادري ايهما ينير المكان وجهه ام هي.. تسللت الدموع الى عيّني وأنا أشاهد قطرات الدم التي جفّت على جبهته.. وأشَمُّ من ملابسه عبقاً يفوح منها، كأنّه عطر تراب امتزج بأزكى الدماء..
أتذكّر آخر مرّة حادثني فيها وقال لي:
- تصبّري وصابري.. فإنّ موعدنا قريب..
ظننته قصد التلاقي لا التجافي.. لكن خاب ظنّي.. فبعدها لم أسمع صوته.. كأنه كان يعلم بأنه سيحلّق في سماء العشق بعد تلك المكالمة..
عاودت أرنو إليه.. استصعبتُ كتم عباراتٍ أمضيتُ أياماً وأنا أنسجها له، والأصعب من ذلك أن أراه ولا استطيع حتى عناقه أو تقبيل يديْه.
كنتُ أحاكيه بنظراتي، وبلغة لا يفهمها إلاّ هو، لكنّه ما زال لا يحرك ساكناً وكأنّه ألقى تعويذة ما عليّ فلا أستطيع الحراك أنا ايضاً.
بين تلك اللحظات أرخى ناظريه وعاد من شروده مبتسماً.. تناثرت دموعي على خدّي كانفراط لآلئ قلادة كان يجمعها سلكٌ رقيق.. لم أعد أتحمّل هذه المسافات التي تفصلنا.. فاستجمعتُ طاقتي واندفعتُ راكضةً بكلّ ما أوتيتُ من قوّة، ولكن أوقفني ظلامٌ انتشر سريعاً في كلّ الأرجاء.
فجأة اختفى كلّ شيء، انطفأ النور الخافت، كأنّي سقطتُ من شاهق، راحت أنفاسي تتسارع، وقلبي ينبض بجنون.. أديرُ ناظري يميناً وشمالاً وأنا أبحث عنه، لكنّه رحل.. رحل ورحلتْ معه كلماتي.. نظراتي.. وضعفي الذي لا اظهره إلا امامه ...
ولكن لماذا ما زلتُ مستلقية؟! أين أنا؟!
أوه.. إنّها وسادتي! هل كنت نائمة؟! كأن الندى ترك اوراق الشجر وأقام على خدّي؟! رفعتُ يدي لأمسحه.. إنّها دموعي! أكنت أبكي؟!.
علا صوت الأذان:
- الله أكبر.. الله أكبر..
نهضتُ كي أقف بين يدي الله وأطلب منه رحمةً لأبي الذي رحل إليه.. تاركاً وحيدته تصارع الحياة بمفردها..
أعلم بأنّه لن يعود.. فليس من عادة الكريم ردّ الهدايا التي تصعد إليه..
لكن رغم ذاك عدتُ أتساءل:
تُرى أكان حلماً أم كان وهماً؟!
اضافةتعليق
التعليقات