من بين قرع الدفوف وأصوات الاحتفالات بقتل القرابين المحمدية، وبعد تخويف وترهيب وضرب الأطفال والنساء بوحشية وسلبهن وحرق مأواهن بنيران أضرمت بقلب الخيام فأصابت أقدام طفولية تخشى عليها حتى الشمس من أشعتها، فبالصراخ والعويل فرت الأطفال والنساء بالهلع والذهول دخلت أقدامهن أشواك قاسية لا تعي حرمة الآل ولا تخشى شهقة الصغار ولا تكترث لألم القلوب والأجساد.
فبوسط فنون الوحشية تم سبي الثلة الأمجاد من النساء والأطفال، بقسوة تقشعر لها الأبدان وتوجل لها القلوب كانت ضمن قافلة السبي طفلة حديثة اليُتم، لا زالت دماء والدها تغلي من الفوران ، لم يعد لها متكئا يَواسي دموعها البريئة وكفوفها الصغيرة، لم تعد تلمس كف والدها المعطاء ولم تشعر بعده بالأمان، شعورها يقاسي كل أنواع الفقد والحرمان، لأن كان لها والد لا مثيل له ولا تكرار، فصفاته لا تعاد ومجده لا يثنى، وقُتِل مظلوماً منحوراً مع أولاده وصحبه وإخوته، وكانت رؤوسهم محزوزة المناحر ومرفوعة على رؤوس الأرماح متلألئة الأنوار تالية لكتاب الله بترتيل وخشوع وتترأس قافلة السبي المحمدية، وكأن بتلك الرؤوس تقول لأهلها أننا معكم هنا أحياء نسمع ونرى وإن نصر الله قريب .
فأخذ السبي مأخذه من الشقاء والارهاق والتعذيب، لم يسمح للسبايا حتى البكاء فمن يبكي يُعذب ويُجلد بأقسى أنواع العذاب لم تكن حرمة لكاهل أو صبي، وبالسلاسل والقيود كانت تجري أياديهم الطاهرة بالدماء اللاهبة من شدة العذاب وزجر السياط وسوء الكلام بالسب والشتم قاسوا وعاشوا أنواع العذاب لكنهم لم يتركوا فريضة ولا استحباب، وتفيض من شخوصهم الحشمة والوقار، وحتى تلك الطفلة الصغيرة التي كانت مميزة بين أيتام السبط الشهيد لأن علاقتها بوالدها وتعلقها به تفوق الحدود وتصدع لها القلوب، كان ملاذها الآمن حجر والدها الحنون، وفقدته بين لحظ العيون، فأصبحت بلا أمان تقاسي الفقدان، ولا تستطيع البكاء لأنه أصبح جُرم يستحق العقاب ويشمل حتى الأطفال إن بكوا تنهشهم السياط بوحشية ولم تكن أياديهم متاحة لهم ليدفعوا عن أجسادهم الضعيفة الضرب بل كانت أياديهم مغلولة إلى الاعناق وظهورهم دامية بسياط الزجر والعدوان.
رَمُدت عينا تلك الطفلة وكانت تصارع الحياة على أمل الموت للقاء حبيبها ووالدها وأمانها ودفئها، كانت تكلمه بخلجات نفسها وتطلب لقاءه، فالحبيب إن غاب غابت معه الحياة وغادرت معه الروح، تقول له (أبتي إن رقية قد أعياها فقدك وسياطهم فلم يعد جسدها ينسجم مع روحها، كل شيء فقد الحياة بإحتزاز نحرك يا ريحانة الرسول وسيد شباب الجنان)، لكن... لا جدوى!!! إلا أنه بليلة مأساوية رأت الطفلة ذات الأربع أعوام في المنام مناها، نعم ها هو أباها، يحادثها بلطف وحنان وعطاء، يقبلها ويحتضنها ويلاعبها بشوق ولهفة ويأخذها لحجره ويشبك يديه بقوة ليحضنها بكل حب.
ويتمتم لها بكلمات (أقبلي إلي يا طفلتي فالوعد قد حان)، سرعان ما انتهى الحلم لتصرعها الحقيقة المفجعة ففزعت الصغيرة رقية من منامها باكية صارخة تندب أباها وتندد باسمه وتخبرهم أنها لم تعد تطيق الصبر فقد نفذت طاقتها، فبراءة طفولتها لم تطيق تحمل مصائب تزول الجبال من ثلتها، فكيف بطفلة لم تتجاوز الخامسة من العمر؟.
فأمر طاغية العصر يزيد ابن معاوية عند سماع تلك الأنفاس الصغيرة الجاهشة بالبكاء شوقاً لوالدها بأن يحضروا لها الرأس الشريف بطبق مغطى، ولما تم الأمر ورفعت الطفلة ذلك الغطاء ونظرت إلى الرأس الشريف حضنته بلهفة ولحقته روحها مسرعة ورفرفت كالحمام إلى السماء شاكية الظلم والاسى لبارئها، فلم تغسلها حينذاك مُغسلة خشية من أنها تحمل عدوى، فظنوا أنها مريضة ولم يعلموا بطبع وآثار السياط عندما تتصادم مع أجساد رقيقة وجلود ناعمة وأبدان مكبلة.
فسيدتي السلام على يداك الصغيرتان وكفيكِ المعطاءان للحوائج بلا حساب، السلام على لهب دموعك الموجر لفقد أبيك الشهيد، السلام على ساكنة الشام بغربة الاوطان، السلام على بدنك الصغير ومقامك الكبير، السلام على روحك الطاهرة وجسدك المعذب، السلام على صبرك وانتظارك ولهفتك على أبيك الحسين الشهيد، السلام على طفولتك الأزلية وظلامتك التي لم يقسم على الله بها قاسم إلا اعطاه الله سؤله وبلغه مطلبه وآتاه حاجته، فإن صغر يداك أفاض علينا بحاجات مستعصية لأن مقامك عظيم وجاهك وجيه وأباك عزيز عند رب العرش.
اضافةتعليق
التعليقات