مفهوم الاستشراق مشتق من الشرق، والشرق مصطلح جغرافي يطلق على البلاد الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط، فقد كان هذا البحر يمثل مركز العالم في الماضي، فما يقع شرقه يسمى عند الاوروبيين بالشرق، وما يقع على ضفافه الغربية يسمى غرباً.
وما لبث مفهوم الشرق يتمدد ويتسع وتجري تغييرات عليه تبعاً للتغيرات الجيوسياسية والتحولات في خارطة العالم التي أحدثها الاستعمار، ولذا ظهرت مصطلحات: الشرق الأقصى، والشرق الأدنى، والشرق الأوسط، فكان الأقصى أقصى بالنسبة لموقعه من اوروبا، التي وضعت نفسها مركز العالم... وهكذا.
وقد تحدد مفهوم الاستشراق باعتباره المعرفة بالشرق، والمستشرق هو العالم والباحث والدارس والرحالة، بل الدبلوماسي والصحفي والتاجر، الذي يجيء إلى الشرق، أو ربما لا يجيء، غير أنه يهتم بتراثه وفنونه وفلكلوره ولغاته وثقافته واديانه وطقوسه، وكل ما يتصل بعادات مواطنيه وتقاليدهم وتاريخهم.
لقد أضحى مفهوم الاستشراق من المفاهيم الملتبسة التي تعددت معالجاتها، وتنامى باستمرار سجال حول اطارها وحدودها لدى الباحثين في الغرب والشرق، بعد ان تكشفت اساليب طائفة من المستشرقين ودورهم في التمهيد للهيمنة الاستعمارية وترسيخها في البلدان الشرقية. فمثلاً وصف أحد الغربيين المستشرق بأنه كل من يتبحر بلغات الشرق وآدابه، فيما حدّد هوية المستشرق باحثون آخرون بقولهم: هو عالم من علماء الغرب يتفرغ لبحث الآثار الشرقية، ودراسة اللغات الشرقية، وتقصي آدابها، لمعرفة شأن أمةٍ من الأمم الشرقية، من حيث أخلاقها وعاداتها وتاريخها ودياناتها وعلومها.
أما الاستشراق فاعتبره أحد الكتاب: إطاراً معرفياً لعلاقة الغرب بالشرق، أما مجاله فلا يقتصر على الخطاب الأكاديمي والاستعماري والانثربولوجي عن قضايا الشرق، سواء كانت على هيئة خطاب أم أدب أم كاريكاتير أم خبر صحفي، ثم تدخل في منظومة معرفية تستوعب الصور والرموز والكتابات والكلام الشفوي، الذي يصور الحياة الشرقية وتجلياتها ومكنوناتها.
ويجعل باحث آخر الاستشراق تعبيراً عن الاهتمام الثقافي الذي مصدره الغرب ومقصده الشرق، أو هو دراسة الحضارات الشرقية من قبل باحثين ينتمون إلى حضارات أخرى، ولديهم بناء شعوري ولا شعوري مخالف للحضارات موضع الدراسة.
نشأة الاستشراق
بدأت الاتصالات بين الشرق المسلم والغرب في فترة مبكرة، فقد تعرف الاوروبيون على الإسلام عبر الاندلس، فعندما فتح المسلمون الاندلس عام 711م بقي بعض أهل البلاد على نصرانيتهم، كما حصلت مصاهرات بين بعض الأسر الاندلسية المسلمة والأسر النصرانية هناك، فتزوج بعض المسلمين من نصرانيات، وإثر هذا الاختلاط تحقق تفاعل، وشاع بالتدريج التعرف على الإسلام والمسلمين في البلاد الاوروبية، واشتهرت مظاهر الحضارة الإسلامية، واكتشف بعض رجال الدين النصارى شيئاً من معارف المسلمين وعلومهم، فتلهفوا لأخذ المزيد منها، وترجمتها فيما بعد إلى اللاتينية واللغات الأخرى في اوروبا.
من هنا يمكن أن نرجع لحظة ميلاد الاستشراق او اكتشاف الاوروبيين للشرق المسلم وحضارته إلى ما يناهز الألف عام. ويستدل بعض الباحثين على وجود جذور تاريخية للاستشراق منذ عشرة قرون تقريباً بتوفر مدونات اسبانية مشحونة بتأثيرات واضحة في مضمونها من معارف المسلمين وعلومهم.
مما يدل على أن مؤلفيها استعاروا مادتهم من المصادر الاسلامية.
تحيز المعرفة الاستشراقية
الاستشراق اختراع اوروبي يتصرف بخامات شرقية، ويتحرك بأدوات لخدمة المصالح الاوروبية، وتعزيز هيمنة الغرب على الشرق، وتأكيد تفوقه وسيادته، وهو التعبير الواضح للمركزية الغربية القائمة على نفي الآخر.
وليس الاستشراق كما يحلو للبعض أن يقول: خطاباً علمياً ومعرفياً موضوعياً عن الشرق، أنجزه الباحثون الغربيون، الذين تخصصوا بدراسة المجتمعات الشرقية وتراثها، وظلوا أوفياء لتخصصهم طوال حياتهم، حيث حرصوا على تصنيف الكتب، والتنقيب عن الآثار الشرقية، وإصدار الدوريات، وعقد المؤتمرات والندوات، والترحال بين البلدان الشرقية، وانشاء مراكز البحوث والدراسات، من أجل ذلك.
إن المعرفة الاستشراقية لم تولد في مناخ محايد، وانما تشكلت في ظل الصراع الحضاري التاريخي بين الإسلام والغرب، وما اختزنته الذاكرة الغربية من صور بشعة منفرة عن الشرق كله، والإسلام والمسلمين خاصة.
مضافاً الى أن الأساطير المترجمة الى اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى أضحت أهم مصدر للتعرف على الشرق وثقافته ومجتمعاته، وكانت هي الباعث لمغامرة الكثير من الرحالة والمستشرقين للتوغل في هذا العالم الغريب والهجرة إليه.
اضافةتعليق
التعليقات
المغرب2019-10-26