أحد الأشياء المهمة في حياة العاملين هو التطوير الدائم، وقبل أن نتحدث عن التطوير هنالك موضوع ربما يظهر من بعض الآيات القرآنية، وهو أن المؤمن ينبغي أن يكون في حالة تكامل، وحالة التكامل والتطور هذه، لا تقف عند حدٍ معين، وللعلماء كلمة يقولون فيها: هنالك حقائق في هذا الكون وفي هذا الوجود لا تقف عند حد، وبتعبيرهم: الموجود منها محدود، ولكن لا تقف عند حد معين، يعني وإن كان الموجود محدوداً، ولكن هنالك قابلية للنمو وللرُقي، ويمثلون في ذلك بالأعداد الموجودة في هذا الكون، فكلها متناهية، لأننا ليس عندنا موجود مادي لا يتناهى حتى ذرات الرمال متناهية، ولكن العدد لا يقف عند حد معين، كلما افترضتم عدداً، بالإمكان أن تفترضوا وراءه عدداً آخر.
والكمال في هذا الوجود على هذا النحو، لا حدّ معين له، الله تعالى الذي يقول في شأن نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، هذا في باب الخُلق، ولكن في باب العلم يقول الله تعالى لنبيه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، يعني النبي (صلى الله على وآله) مع كل ما يعلمه، ومع أنه يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن، ولكن العلم لا ينتهي عند هذا الحد، فهنالك مرتبة أخرى بل ومراتب أخرى، ولا يُعقل أن تنتهي مراتب الكمال العلمي، وهذا أمرٌ ثابت بالبرهان، والله سبحانه وتعالى وجود غير متناهٍ، علمه عين ذاته، وذاته غير متناهية، فعلمه غير متناهٍ، وهذا البرهان واضح، فإذن، العلم لا ينتهي عند حد معين.
يقول العلماء إن إحدى الآيات المشجعة على العلم بشكل شديد قوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، أنتم مهما بلغتم من الكمال العلمي يجب أن تعلموا أن هنالك من هو فوقكم، إذن يجب أن تكون هذه الحقيقة دائماً نصب أعيننا، بأن الكمال لا ينتهي، وأننا ما دمنا في هذه الحياة وحتى آخر لحظة نعيشها يمكننا أن نتكامل.
هنالك باب في (الكافي الشريف) - على ما أتذكر- باب أن الأئمة (صلوات الله عليهم) تُفاض عليهم علوم جديدة في كل ليلة جمعة، ولعل بعضكم رأيتم حتى أئمة أهل البيت في حالة كمال دائم.
بعد هذه المقدمة وبعد أن نضع هذه الحقيقة نُصب أعيننا، يجب أن يكون نُصب أعيننا نوعان من التكامل:
النوع الأول: تكامل الذات..
في جميع الأبعاد الممكنة، من التكامل في مجالات العلم، إلى التكامل في مجالات التقرب إلى الله تعالى، كثير من الأفراد الذين كانوا أولياء لله تعالى، لم يكونوا في أحد الأيام من أولياء لله تعالى، إنما حصل تحول مفاجئ في حياتهم وتحول الرجل إلى ولي من أولياء الله، مثل ذلك العالم المشهور الذي يُقال له (القشقائي) الذي تتلمذ عنده السيد البروجردي وهو المرجع المعروف (رحمة الله عليهما)، كتبوا في أحواله أنه كان عازفاً على الأوتار في بداية حياته، لكن على أثر كلمة تحول بشكل مفاجئ، وأصبح من أولياء الله تعالى، وهكذا القضية المعروفة حول الملك المشهور الذي ترك ملكه في ليلة وتحول إلى عابد، وهو رجل معروف، يذكره التاريخ باسم مالك بن دينار، تحوّل على أثر حادثة إلى ولي من أولياء الله، إذن، فان كثيراً من أولياء الله تعالى كانوا من أمثالنا، ولكن في لحظة واحدة على أثر عناية من الله تعالى يتحولون، وإذاً هنالك مجال أمامنا ما دمنا في هذه الحياة بأن نتحول إلى أولياء لله تعالى، فخط الكمال مفتوح أمامنا، وهو باب مفتوح.
وهنالك قضية ذلك الرجل الذي كان بائعاً للأكفان أو كان كاتباً للأكفان، وقد مضى من عمره حوالي الثلاثين عاماً، وإذا به بعد الثلاثين من العمر ذهب إلى خطبة فتاة، فقال له الأب: أنا لا أعطي أبنتي إلا إذا بلغت إلى مرحلة (المعالم)، فيجب أن تقرأ البحوث العلمية إلى (المعالم)، فبدأ بقراءة البحوث العلمية، وبلغ مرحلة (المعالم)، وهو اليوم في تاريخنا يُعد أحد كبار العلماء، وهو مؤلف كتاب (الرياض) الطباطبائي، وكان كتابه في كربلاء من الكتب التي يقرأها الطلبة، ونُقل لي اليوم أنه يُقرأ في قم أيضاً في بعض المحاضرات، وهذا الكتاب يُعد من أفضل الكتب الفقهية، هذا دليل على أن كل واحد له الإمكانية على التحول.
هنالك نقطة؛ الأفراد ينظرون إلى النوابغ على أنهم أفراد غير عاديين وغير طبيعيين، ولعله إذا نظرتم الى النوابغ لرأيتم أغلبهم كانوا أفراداً عاديين أو دون العاديين، أحد العلماء الكبار المتفوقين في ميدان العلم والتقوى - لا أذكره واليوم تُطلب الحاجات عند قبره في قم- كتب عن نفسه وفي أحواله: إنني بليدٌ، أي لم يكن ذهنه متدفقاً، ولم يكن يلتقط المسائل بسرعة، وفي البحث العلمي لم يكن يتمكن من مجارات العلماء، يعني عندما يُطرح عليه إشكال لا يتمكن من الإجابة فوراً، بل يجب أن يذهب ويفكر ويكتب، لكنه أصبح من كبار علمائنا مع هذه الحالة، فلا يفكر أحد أن الأولياء والعلماء والعباقرة والعظماء الذين غيّروا التاريخ كانوا أفراداً غير طبيعيين، بل كانوا أفراداً مثلنا على الأغلب، وربما كانت مشاكلهم أكثر منّا، ولكن بالتوكل على الله وبالإرادة والمتابعة، التي هي قضية جد مهمة، وبهذه المتابعة تحولوا إلى ما رأينا وما نرى.
النوع الثاني: تكامل العمل..
أنتم اليوم جميعاً مشغولون بعمل هو من أفضل الأعمال عند الله تعالى إن شاء الله، وهو العمل الثقافي المهم جداً، لأن الغرب يفكر في أنْ يهاجم أمتنا بأشكال أخرى، وفي الوقت الحاضر فإن مركز الهجوم هو الهجوم الثقافي، لذا فهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى، فالعمل العلمي له قيمة كبيرة عند الله، ولكن ينبغي أن نعلم أن ما نقوم به قليل جداً.
كان عندنا أحد العلماء يقول سألني أحد الاشخاص عن سبب عدم تأثير خُطب الجمعة، ولماذا لا تؤثر في الأفراد؟ فقلت له: كلا إن خطب الجمعة تؤثر، وإلا فهؤلاء الشباب المؤمنون المتديّنون، من الذي جعلهم كذلك؟ إنها الخطب وهذه الكتب والمقالات، ولكن خطبة الجمعة ثلاثين دقيقة من الجمعة إلى الجمعة، فيما الإعلام المضاد يعمل ليل نهار، من الطبيعي أن يكون أثر خطبة الجمعة محدوداً، وفي الحقيقة نحن أمام عمل إعلامي وثقافي ضخم، ويجب علينا أن نحاول تطوير هذا العمل تطويراً كمياً وكيفياً.
إن الله تعالى جعل الحياة بشكل أن جميع أبعادها دون حدود، يعني أنتم في الخط الذي تسيرون فيه لا نهاية له، فالفقه لا نهاية له، المنطق لا نهاية له، والطب لا نهاية له، وأي بعدٍ من أبعاد الحياة تجدون أنها لا نهاية لها، فنحن يجب علينا أن نحاول أن نعمق هذا الخط الثقافي ونقوّيه.
نقل لي أحد الأخوة أن هنالك فيلماً صنعه المسيحيون بعنوان (آلام المسيح)، ونقل لي أن اليهود قاموا بضجة عظيمة ضد هذا الفيلم، وقال حتى اليوم بلغ عدد الذين شاهدوا الفيلم حوالي مئتين وخمسين مليون شخص في العالم، وهذا فيلم واحد وأنفقوا عليه كما نقل لي، وعلى ما أتذكر مليار دولار، وقد قام اليهود بعمل إعلامي ضخم حتى أجبروا الذين وراء هذا الفيلم أن يحذفوا المقاطع الحادة جداً منه، واضطروا فعلاً إلى حذفها، فنحن أمام عمل كهذا، وهنالك مجلة ربما رآها الكثيرون، نقل لي أحد العلماء، قال جوهر هذه المجلة هو الترويج للقيم التي تبتني عليها الحضارة الغربية، ويطبع من المجلة كل عدد ثلاثون مليون نسخة، وهي مجلة شهرية.
لاحظوا عملنا ولاحظوا عملهم! نحن ينبغي علينا أن نحاول أن نطوّر عملنا ولا نقنع ولا نتوقف عند حد معين، وما دمنا في هذه الحياة فثمة مجال، وإذا مات الانسان، ينتهي كل شيء، ولا مجال بعد ذلك، بينما اليوم ثمة مجال، كان أحد المؤمنين يُنقل أنه كان من الأخيار، أُبتلي بمشكلة عظيمة، وكانت المشكلة فوق طاقته وفوق تحمله، وهنالك دعاء يُقرأ لهلاك العدو، فقرأ هذا الرجل هذا الدعاء لهلاكه هو، ثم ركب الطائرة في الطريق سقطت الطائرة وانتهى ذلك الرجل، فرأوه في عالم الرؤيا قالوا كيف حالك؟ قال: الحمد لله – يقولون لأنه كان من الأخيار- ثم قال: ولكن أنا نادم لماذا قرأت ذلك الدعاء؟ لأن في هذا العالم عرفت أنني أحتاج إلى أقل طاعة من الطاعات، فإذا كنت أعيش أكثر كنت أعبد الله أكثر وأطيعه أكثر، لكن هنا لا أتمكن من فعل شيء، وأظن هنالك في الأحاديث أن الانسان في الآخرة إذا كان هنالك مجال للموت لكان يموت من شدة الندم، ولكن لا يوجد موت هناك، إنما الندم، إذن، ما دمنا نحن على قيد الحياة يجب علينا أن نحاول في كل الأبعاد الممكنة بأن نؤدي الوظيفة التي خُلقنا لأجلها، وإن شاء الله يبارك لنا الله في هذه الجهود ويجعل فيها خيراً كثيراً.
اضافةتعليق
التعليقات