إن الأفعال الإرادية التي تصدر منا نحن البشر لا يمكن أن نعتبرها فلتة أو مصادفة ولا شهاباً ظهر فجأة من المجهول، ولا يمكن أن نعتبرها كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لهـا مـن قـرار، فهذا المعنى قد يفرض في الأفعال غير الإرادية، فحين يمشي أحدهم في الطريق وتزل قدمه فجأة ويسقط في هاوية، هذا العمـل ربما يعتبر عملاً فجائياً أو مباغتاً، فيقال إنه سقط فجأة من دون أية مقدمات، ولكن هذا المعنى لا يمكن أن نفترضه في فعل إرادي لأن الأخير يصدر من طبيعة الفاعل ويكشف عن هوية هذه الطبيعة.
لنضرب مثالاً لتقريب هذه الفكرة إلى الأذهان، في أحد الأيام استيقظ شاب على صـوت أذان الفجر، فقد توجه الخطاب الإلهي له: قم وأطع ربك واعبد ربك، ولكنه كان متثاقلاً، إذ لا يتمكن أن ينتزع نفسه مـن الفـراش، فيقول لنفسه: سأنهض بعد عشر دقائق، ثم بعـد عـشرين دقيقة وهكذا يظل يصارع نفسه حتى يغلبه النوم وتفوته صلاة الصبح، هل يمكـن لنا أن نعتبر عمل الشاب فجائيا؟ بطبيعة الحال كلا، فهذا العمل إنتاج يكشف عن طبيعة الفاعل. إذا أردتم أن تحكموا على إنتاج معمل ما، كيف سيتم ذلك؟ قد لا يكون ـ في بدأ الأمر ـ إنتاج المعمل معلوماً من حيث الجودة أو الرداءة، لكن الإنتاج الأول سيكشف لكـم عـادة عن طبيعة هذا المعمل، فهنالك علاقة وثيقة بين النتاج وبين طبيعة المنتج، حيث سيكشف السقوط العملي عن سقوط في نفسية المنتج، إذن ذلك الضعف العملي لدى الشاب المتثاقل يكشف عـن خـور وضعف في نفسيته، ولعل الله سبحانه وتعالى يشير إلى هذه الحقيقة بقوله: (قل كل يعمل على شاكلته) سورة الاسراء.
ولذلك إذا صدرت من الرجل العادل الذي يتحلى بملكة العدالة، في يوم أو لحظة ما معصية كبيرة، فهو من الناحية الفقهية مسقط للعدالة كمـا يقـول الفقهاء، فإذا ارتكب غيبة ـ مثلاً ـ حتى لو كان عادلا لمدة عشرين عاماً، لكنه بمجرد ارتكابه لهذه الغيبة تسقط عدالته، لأن هذا الفعل يكشف عن حصول انقلاب في طبيعته وفي ماهية ملكة العدالة لديه، فعـادة لا يمكن أن تـصـدر مـن العـادل معـصية مـن دون حدوث الانقلاب في طبيعته، وسيكشف لـنـا هـذا الفعـل عـن وهمنا بأنـه كـان رجلاً عادلاً، ويمكن أن ترمم هذه الحالة ويعالج الانقلاب الـذي يحدث في طبيعة الإنسان وفـق الضوابط التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية.
إدانة العمل إدانة للنظام
بعد هذه المقدمة، نقول: إن قضية قتل سيد الشهداء الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) والصفوة المنتجبة الذين كانوا معه، لم تكن خطأ ارتكبه نظـام فـقـط، حيث يقول بعض الأفراد: نحن ندين هذا العمل ولا ندين النظام الذي وقف وراءه، وبعضهم يقول: أولئك قـوم عـصمنا الله من الاشتراك في دمائهم، فالعنوا العمل ولا تلعنوا العامل، أي لا تلعنوا ذلك النظام الذي أنتج مثل هذه الفاجعة لا يمكن لنا أن نقتصر في القضية على إدانة العمل فقط، بل هي في واقعها إدانة الى للنظام الذي قام بالعمل، إن هذا الأمر يشبه من يقول أننا ندين العمل الفلاني الذي قام به النظام الفلاني البائد دون النظام، لكن العمل هو إنتاج طبيعي لطبيعة ولواقع ذلك النظام، إذن يجب أن تنصب المسؤولية أولاً على ذلك النظام الذي أنتج هذه الجريمة وهذه الفاجعة، فالنظام الفاسد المستبد والغارق في شهواته، لا تهمه إلا مصالحه وأهواؤه، ولا يبالي بتهديم الكعبة المشرفة وهي بيت الله تعالى كما فعل ذلك نظام يزيد، ولكن إذا كان هناك تعارض بين الحكـم وبين هدم الكعبة فلا مانع ليزيد من هدمها للحفاظ على نظامه، ثم ألم يستبح هذا النظام مدينة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أيام حتى جرى الدم في مسجد النبي الأعظم (صلى الله عليه واله)، ناهيك عن الفجائع الأخرى التي ذكرها المؤرخون مما قام به الجيش الأموي في تلك الأيام الثلاثة بالمدينة المنورة، إن الإدانة يجب أن لا تقتصر على هذه الأعمال فقط وإنما تمتد لتشمل النظام أيضاً، لأن هذه الأعمال من نتاجه ولذلك فهي تكشف عن طبيعة النظام.
هنا نشير بصورة عابرة لنظام يزيد ونسأل كيف وجد هذا النظام؟ إنه بطبيعة الحال وليد طبيعي لمن تقدمه، فيزيد لم يقم بانقلاب أو بثورة، بل هو نتاج طبيعي لمن تقدمه من الأنظمة وكان وليداً طبيعياً لها، إذن في واقع الحال إن قتل سيد الشهداء (صلوات الله عليه) لا يمثل إدانة لفرد هو (يزيد) فحسب، أو لنظامه فقط، إنما يمثل إدانة لتلك الحلقات المتتابعة التي أنجبت نظـام يـزيـد الـذي انتهى إلى قتل سيد الشهداء، فبقتل سيد الشهداء عليه السلام انكشفت تلك الحقيقة التي أرادوا إخفائها. فإذا أراد المسلمون أن يعرفوا من هي الفرقة الناجية منهم، وهي قضية مهمة جداً، قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حديث شريف رواه الفريقان: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقي في النار).
إن هذه القضية مهمة جداً، لأنها تتعلق بالمصير الأبدي للمؤمن؟ وقد كشفت قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) هذه الحقيقة، ولذلك كثير من المتحولين الذين عرفوا الحقيقة وأبصروا الهـدى، انطلقـوا مـن قـضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) حيث استوقفتهم وانطلقوا منها وتابعوا الحلقات المتتالية حتى توصلوا إلى الحقيقة. نحن نقرأ في زيارة عاشوراء: «لعن الله أمة قتلتكم» ولمعرفة تلك الأمة ينبغي أن لا نقصر النظر على خصوص المباشرين فحسب، لأنها نتيجة لما سبقها، فعلينا أن نلاحظ المقدمات وكيف انتهت إلى تلك النتيجة.
اضافةتعليق
التعليقات