لا أعلم ما كان تأثير بكاء السيدة فاطمة الزهراء ما في النفوس المريضة حتى شعروا بالإنزعاج، وهل بكاء امرأة جالسة في بيتها يسلب الراحة من أولئك الشخصيات الفذة؟!
فاجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين وقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنـا قـرار على أشغالنا وطلب معايشنا وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهاراً فقال علي (عليه السلام): حباً وكرامة .
فأقبل الإمام علي حتى دخل على فاطمة الزهراء وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلما رأته سكنت هنيئة فقال لها: يا بنت رسول الله إن شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إما أن تبكي أباك ليلاً وإما نهاراً فقالت: يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول الله.
فقال علي: إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك.
نعم، إن شيوخ المدينة لا يعرفون حق رسول الله وقدره ومنزلته فلو كانوا يعرفون ذلك لكانوا يشاركون ابنته الوحيدة في البكاء ويساعدونها في ذرف الدموع على أشرف ميت وأعز فقيد.
ويا ليتهم حين لم يشاركوها ولم يساعدوها كانوا يسكتون ولا يمنعونها عن البكاء على مصائبها العظيمة.
ولكنهم معذورون، لأن السياسة فرضت عليهم أن يمنعوا حبيبة رسول الله عن البكاء على سيد الأنبياء.
يحق للسيدة فاطمة أن لا تمتنع عن البكاء على تلك الفاجعة العظمى والكارثة الكبرى لأجل أناس لهم غايات وأهداف يعلمها الله تعالی، فبنى لها الإمام أمير المؤمنين إلا بيتاً نازحاً عن المدينة سمي بيت الأحزان، وكانت إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين إليها وساقها بين يديه إلى منزلها فليتهنىء أولئك المنزعجون عن بكاء فاطمة ولترتاح ضمائرهم، وليناموا على فُرشهم ليلا نومة عميقة هنيئة بدون أن يشعروا بالأذى من بكاء فاطمة العزيزة.
تنظر إلى زوجها العظيم، جليس الدار، مسلوب الإمكانيات، مغصوباً حقه وإلى أملاكها قد صودرت، وإلى أموالها قد غصبت، استغاثت فلم يغثها أحد، واستنصرت فلم ينصرها أحد، منعوها عن البكاء على أبيها رسول الله أشرف الآباء فكانت تقول في أيام مرضها: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، اللهم زحزحني عن النار وأدخلني الجنة وألحقني بأبي محمد. فإذا قال لها أمير المؤمنين: عافاك الله وأبقاكِ. تقول: يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول الله.
وفي العاشر من البحار عن مجالس المفيد وأمالي الشيخ عن الإمام زين العابدين عن أبيه الحسين قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول الله وصت إلى علي بن أبي طالب من أن يكتم أمره ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، وكان يعرفها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استمرار بذلك.
يستفاد من هذا الحديث مدى تألم السيدة فاطمة الزهراء من ذلك المجتمع الذي عرفت موقفه اتجاه بنت رسول الله فقد يكون الاستياء عميقاً، في النفس كالجرح الغائر في البدن الذي يطول بريد او لا يبرء على مر الزمان .
وهكذا يزهد الإنسان المتألم في المجتمع، ويختار الاعتزال عنهم، وبعد أن كان يستأنس بهم صار لا يحب الالتقاء بهم والتحدث معهم.
وإنما يدرك هذه الحالة كل من رأى الجفاء والقساوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنه ينزعج حتى من رؤيتهم فكيف بالتحدث والمجالة معهم، وقد يبلغ الأمر بالإنسان أن يمل الحياة ويفضل الموت كي يستريح من الحياة التي يعيشها مع أهل الجفاء والقسوة.
إختارت السيدة فاطمة زوجها العظيم ليقوم بتمريضها، ولا أعلم كيفية تمريض الإمام إياها، فهل كان الإمام يصنع لها طعاماً يليق بالمرضى، أو يتولى هو أمور بيته بنفسه؟ وعلى كل تقدير، فقد كانت اسماء بنت عميس لها شرف التعاون في تمريض السيدة فاطمة، ولعل السبب في انتخابها لهذه المهمة هو أنه كانت العلاقات بين السيادة فاطمة الزهراء لي وبين أسماء بنت عميس ودية وطيبة للغاية، إلى درجة أنها كانت تعتبر نفسها من أسرة بني هاشم، وخاصة وأن جعفر بن أبي طالب قد تزوجها، وكانت هي بالذات امرأة عاطفية، تؤمن بالوفاء والإنسانية وتقدر الحقوق لأهلها، وتلتزم بالقيم والمفاهيم العليا ويستفاد من مطاوي التاريخ أنها كانت بالإضافة إلى ذكائها الوافر وعقلها الوقاد حسنة الأخلاق، طيبة المعاشرة، وكانت السيدة فاطمة الزهراء تبادلها نفس الحب والمودة والشعور.
ولما قتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وبلغ رسول الله الخبر بكى الرسول وبكت الصحابة، ووصل الخبر إلى حجرات الرسول فبكت الهاشميات، وأقبل الرسول ودخل على أسماء فدعى بأولاد جعفر وجعل يمسح على رؤوسهم، ويشمهم ويضمهم إلى صدره، فأحست أسماء بالشر وقالت: يا رسول الله هل بلغك شيء عن جعفر؟ فبكى الرسول وقال لها: احتسبي جعفراً فقد قتل.
فبكت وصاحت وأقبل الرسول إلى دار ابنته فاطمة وقال لها: إصنعي طعاماً لآل جعفر فإنهم مشغولون بالعزاء. فعمدت السيدة فاطمة إلى الدقيق وعجنته وخبزت خبزاً كثيراً، وعمدت إلى مقدار من التمر وأرسلت بالخبز والتمر إلى دار آل جعفر.
والعجيب أن الرسول لم يأمر إحدى زوجاته ولا سائر الهاشميات بذلك فلعل السبب في ذلك أن الرسول أراد أن يكون هذا الثواب الجزيل من نصيب ابنته فاطم أو أن الرسول اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطيبة والسوابق الحسنة والخدمات الجمة التي أسدتها أسماء بنت عميس إلى أهل بيت الرسول فلقد مر عليك أن أسماء حضرت عند السيدة خديجة ساعة وفاتها، وأنها ساهمت في التدابير التي اتخذت في زواج السيدة فاطمة الزهراء، بل وحضرت أسماء عند السيدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسين، وقامت بدور القابلة المولدة وساعدنها بعض النساء أيضاً وبالرغم من أنها تزوجت بأبي بكر بعد مقتل زوجها جعفر فإنها استمرت على ولائها، ولم تتغير قيد شعرة، وحتى بعد وفاة الرسول، وموقف أبي بكر اتجاه أهل البيت كان موقفاً معروفاً وبالرغم من الحرب الباردة بين أهل البيت وبين السلطة المتمثلة في أبي بكر فإن أسماء بنت عميس لم تتأثر بعواطف زوجها، وتحدت السلطة تحدياً لا تنقضي عجائب فكيف كان أبو بكر يسمح لها بالذهاب إلى دار علي لخدمة الزهراء وخدمة أولادها ؟ وكيف لم يأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البيت في تلك الظروف الخاصة؟
وعلى كل حال، فقد كانت السيدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء وتنسجم معها وتسكن إليها، وتبثُّ إليها آلامها، وكأنها أختها، وكأنها أحب الناس إليها، وأقربهن إلى قلبها.
اضافةتعليق
التعليقات